المقالات

الفضول المعرفي ما بين الأمل والنجاح (عز العرب الحكيم بناني)

تتبّعت نزول مسبار Perseverance (باللسان الإنجيليزي) على سطح المرّيخ ليلة 18 فبراير 2021 قبل السّاعة العاشرة بقليلٍ. وقد نُقِلَ هذا الحدَثُ عبر الشبكاتِ التلفيزيونيّةِ العالميَّة، واستمعت إلى الحوار الذي دار بين الصّحفي ومتخصِّصتَين في غزو الفضاء بالمعهد الموجود بمدينة كُولُونْ الألمانيّةِ. لم تستطع إحدى الباحثَتين أن تخفي قلقها الواضحَ وهي تنتظرُ مرورَ سبع دقائق مرعبة seven minutes horror، وهو الوقتُ الفاصلُ بين دخولِ المسبار إلى المجال الجوّي للمرّيخِ ونزوله فوق سطح أرضه. كان المسبارُ قد قطع قبل ذلك مسافةَ 54،6 مليون كلم في ظرف ستة أشهر ونصف من السَّفرِ. ويَزِنُ المسبارُ أكثر من طن ويتوفر على حوالي عشرين كاميرا. لم تستطع الباحثة في عُلوم الفضاءِ أن تخفي انفعالها الشَّديدَ وهي تنتظرُ إرسالَ أوَّل صورةٍ من المنتظَرِ أن يبعثها المسبارُ إلى الأرضِ، وهي صورةٌ لن تصل إلى المحطاتِ الأرضية لوكالة ناسا إلا بعد مرورِ 11 دقيقةً على التقاطها. وفجأة ظهرت علامات البهجة والحُبورِ على الرّائدتين بعد ظهُور صورةٍ بالأبيضِ والأسودِ – أو هكذا بدا الأمرُ في البداية لسطح المُرّيخِ. كانت احتمالات نزول الجهاز سالماً احتمالاً كبيراً لأنه رُوبُوط ذاتي الحركة ويستطيع اختيار مكان الهبوط المناسب، إذا ما واجه مشكلةً في النُّزولِ.احتفظت بجملةٍ واحدةٍ من كلِّ البرنامج نطَقت بها إحدى العالمتين. عندما طُرحَ السُّؤالُ التّالي: لماذا الاهتمامُ بهذا المشروع وصرف ملياري ونصف من الدّولارات عليه، وانتظار مدّة عشر سنوات للوصول إلى بعض النّتائج، بعد التوصّل بعيّنةٍ من تربة أرضِ المريخ واستخدام كلِّ تلك الكاميرات، كان الجواب التّلقائي، وعلامات السعادة بادية عليهما: “إنها الرّغبة في المعرفة، بكلِّ بساطةٍ، إنّه الفضول المعرفي؛ نريد أن نعرف أكثر !”إنّه الشُّعورُ بالسعادة والحبور لأنَّ المشروع مجهودٌ أمريكيٌّ ولكنه يعرف مشاركةً دوليّةً كذلك، لأنَّ الدّول الأوروبّية وضعت أقمارَها الاصطناعيّةَ في خدمةِ البرنامجِ، كما يُشاركُ باحثون من مختلف الدُّول بما في ذلك مشاركة العالم المغربي كمال الودغيري. لا يُميّزُ البحثُ العلميُّ بين المؤسّساتِ العلميّةِ على أسس معايير سياسيّةِ ولا تشاركُ الباحثات والباحثون بناءً على أصولهم العرفيّةِ والدّينيّةِ. وعندما فاز عالمٌ ألماني من ميونيخ بجائزة نوبل في الفيزياء الفلكية، قال إنَّ الفضلَ يَعودُ في الفوزِ لكّلِّ الباحثين الأوروبّيين وعبر العالم، وعليه، أهدى الجائزة لكلِّ هؤلاء من كلِّ الأقطارِ. وقد قال في كلمته إنَّ العلم يجمع النّاسَ بينما السياسة تُفَرِّقُهُم. فقد خرجت المملكة المتّحدةِ من الاتّحادِ الأوروبي، لكنَّ العُلماء البريطانيّين لا يزالون يشتغلون في المشاريع الأوروبّية المشتركَةِ. ما يجمع العلماءَ هو الفضولُ المعرفي curiositas، وهي صفةٌ ميّزت فجرَ النَّهضةِ الأوروبّية في ذهن هانس بلومينبيرغ؛ وما يجمعُهُم هو قدرتُهُم على التَّعاوُنِ وتجاوُز الانقسامات السّياسيّةِ وتعزيزِ روح الابتكارِ. ممارسةُ العلم مسألةُ قيمٍ نؤمن بها، وهي قيمٌ تثيرُ مشاعرَ البهجة لدى الباحثات والباحثين، لاسيّما في الأبحاثِ التي تتطلب مُعاناةً طويلةً وعنتاً كبيرا مع البحث، دون أن نتأكَّدَ دوماً من نسبةِ احتمالات النّجاحِ أو تحقيقِ جزءٍ يسيرٍ على الأقلِّ من النّتائج المُبتغَاةِ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق