المقالات

الجماليات المتعالية وأفق التجديد في الدراسات القرآنية(عبد العلي المسئول)

لقد أُنزل القرآن الكريم على الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، فقرأه على صحابته على مُكث، وبين لهم ما أشكل منه، وأوقفهم على حلاله وحرامه ووقوفه، فتعلَّمُوه وعلّموه وعملوا به ودعوا الناس إليه ، وتعلموا معه الإيمان والإيقان والأخلاق، فكانوا رضي الله عنهم جامعين بين علم التلاوة والحكمة والتزكية. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).

ثم جاء مَن بعدهم فاشتغلوا بالقرآن بين دارس لأحكامه وأصواته وتراكيبه ودلالاته ورسمه وضبطه، وبين تالين له باختلاف وجوه قراءاته…

وظهر ناس استعملوا علوم عصرهم من مناهج حديثة ولسانيات فدرسوا القرآن الكريم بهذه الآليات، وهذا المسلك لا ضير فيه إن كان المقصد تطوير الدراسات القرآنية والنهوض بها، شرط استحضار عدد من الأمور حتى يكون هذا الاستدعاء منسجما مع روح الشريعة وخصوصية القرآن الكريم، من ذلك:

1-أن الْقُرْآنُ الكريم هُوَ كَلَامُ رب العالمين نزل به جِبْرِيلُ عليه السلام على قلب الرسول الكريم  مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باللسان العربي المبين. قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). وهو بهذا يفارق باقي النصوص البشرية، إذ هو من لدن حكيم عليم، فتعاملنُا معه ينبغي ألا يكون كتعاملنا مع كلام المخلوق، ففضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه.

2-أن القرآن الكريم ليس كتاب لغة وبلاغة وأحكام ورسم وقصص فقط حتى يدرس كما تدرس الأجناس الأدبية بمناهج لسانية، إنما هو ابتداءً كتابُ إرشاد وهدايةٍ ورحمة وفرقان وبشارةٍ.

3-أن القرآن الكريم نقل إلينا نقلا متواترا بلا شبهة، فهو ليس كباقي النصوص النثرية والشعرية من حيث الوثاقة هو وقراءاته العشر الصحيحة المستفيضة المتلقاة بالقبول.

4-أن القرآن الكريم ليس نصا معرفيا ندرسه من جهة صوته وتصريفه وتركيبه ودلالته فحسب، إنما نتعبد الله تعالى بتلاوته ونأجر على ذلك.

            إن هذا الاستحضار المتحدثَ عنه والجمعَ بين جمالية لغة القرآن ومعاني الإيمان وسمو الأخلاق هو الذي حدا بالأستاذ الدكتور إدريس مقبول أن يخُط بيمينه مكتوبه الأخير “الجماليات المتعالية مقدمة في لسانيات القرآن الكريم”، وما كان له الخوض في مثل هذه الموضوعات المتشعبة لولا رسوخُ قدمه في الدراسات الإسلامية واللغوية، ومعرفته الواسعة باللسانيات الحديثة بتنوع مدارسها ومشاربها واتجاهاتها، باللسان العربي وبألسن أخرى. ينضاف إلى ذلك إيمانه القوي بالثقافة العلمية العابرة للتخصصات والمناهج، بغية استكناه درر القرآن العظيم، وتذوق أسراره، والظفر بمكنوناته، وذلك انطلاقا من أن القرآن كما يؤكد الكاتب هو المهاد الطبيعي للبحث في الأطر المرجعية للعقل المسلم، ولأنساقه القياسية، والتي حين تنتظم داخل حقول وشبكات موضوعية عن الإنسان والمجتمع والدنيا والحياة والآخرة والمال والهدى والضلال، والمركّبات المعرفية والتجمعات البشرية والدينامية بين الأمم اتصالا وانفصالا، تمنحنا رؤيةَ العالم التي تعتبر المقدمة لكل فاعلية؛ لأن الفاعلية الحضارية لا يتصَوّر تنشيطها، إلا بامتلاك رؤية ناظمة عن الوجود وعن الحياة توجه حركتنا نحو المستقبل.

لقد صدّر الدكتور إدريس مقبول كتابه بمقدمة أفصح فيها عن إشكالية بحثه وقصده من هذا التأليف ومنهجه، وقسمه إلى فصول ثلاثة، تحدث في الفصل الأول عن الجماليات المتعالية، واعتبر أن القراءة والترتيل تنقل جزءا من الجماليات المتعالية كلحظة وجودية يصل فيها القارئ الأرض بالسماء والجزئي بالكلي، ويفتح أفقا جماليا للكينونة النسبية نحو المطلق وللوجود المتناهي نحو اللامتناهي.

وفي الفصل الثاني فصل الاستاذ مقبول في مستويات هذه الجماليات، فجعلها على درجتين؛ الدرجة الأولى وتضم الصوتي والمعجمي والصرفي والتركيبي والأسلوبي، والدرجة الثانية وجعلها للدلالي والتصويري والسردي والخطي، فاستوفى بذلك الإحاطة بزوايا الدراسة ممثلا لكل درجة بظاهرة من الظواهر اللغوية جمع فيها بين النظر القديم والنظر المعاصر.

د. عبد العلي المسئول

ومحض الفصل الثالث للحديث عن جماليات السياق القرآني، الذي اعتبر أنه يقدم أمثلة تُجَلِّي كيف يكون بوُسع اللغة أن تحمل رؤية إدراكية عن العالم، وكيف تحمل قيما أخلاقية تنسحب على العلاقات الإنسانية، فبواسطتها تنشأ العلاقات وبها تنقطع، ومن خلالها نعيد ترتيب العالم والمعرفة.

وتأتي الحاجة حسب الأستاذ إدريس مقبول لتعميق دلالة السياق في التعامل مع لغة القرآن الكريم لأجل ما سماه (استئناف مسيرة تثوير الدلالة القرآنية)، وذلك من أجل تحقيق إنتاجية ثقافية أخلاقية في كافة حقول الجهد العقلي، كما أن القول عنده بدلالة السياق هو قول بحياة اللغة وحياة المعنى الذي تحمله، وضمانٌ لاستمرار هديه في الزمان والمكان وتكيفه معهما، فإن القرآن في سائر إرشاداته يجري مع ما يحقق الهداية والصلاح للإنسان في كافة أحواله.

ثم ختم الكاتب بحثه هذا بنتائج مرضية وخلاصات وتوصيات، لعل أهمها: حاجة برامج التعليم والبحث العلمي الجامعي لهندسة جديدة تفتح مسارات دراسية لاستفادة طلبة العلم الشرعي من مناهج التحليل في العلوم الإنسانية والاجتماعية ومناهج التحليل اللساني، في مقابل استفادة طلبة الدراسات الاجتماعية من مواد علوم القرآن وعلوم الحديث وغيرها من دروس الفقه والأصول والتفسير، فإن المقاربات العابرة للتخصصات كما يقول الكاتب تحتاج لتأسيس أفق معرفي يتميز بالمرونة والانفتاح في الوسط الأكاديمي بما يتيح تجديد النظر وتبادل الخبرات وعبور الأدوات واختبار قدرتها التفسيرية باستمرار.

وقد اعتمد الباحث على طائفة من المصادر والمراجع المتنوعة زمانا وأفانين، فجاء كتابه بحمد الله تعالى مستوعبا للموضوع.

إن المتخصص في الدراسات اللغوية قديمها وحديثها، والمشتغل بالدراسات القرآنية ليجدان بحق بغيتهما في هذا السفر، وإنه لإضافة نوعية إلى المكتبة العربية والإسلامية وإغناء لها.

والحمد لله أولا وأخيرا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق