المقالات

الانفجار العظيم (إدريس أوهلال)

ما يحدث الآن ليس تغييرا للعبة ولقواعدها وإنما تفجير لها من الداخل.

من الخطأ التمسك بمؤسسات اخترعت في القرن التاسع عشر والاعتقاد في أنها مؤسسات طبيعية وُجدت منذ الأزل لتبقى للأبد والرهان على مستقبلنا ومستقبل أبنائنا في القرن الواحد والعشرين من خلالها.. من الخطأ التمسك بالمدرسة التقليدية النمطية الفاشلة والمعززة للفشل في زمن انفجرت فيه أشكال جديدة للمعرفة ووسائل فعّالة للتعليم والتعلم.. من الخطأ التمسك بتعليم جامعي نظامي حكومي وخاص يمتد لخمس سنوات وأكثر في زمن تستطيع فيه من مكانك امتلاك أفضل الشهادات والخبرات في سنة ونصف أو سنتين بمزيج من أفضل الكورسات المتميزة من جامعات عالمية مختلفة موضوعة رهن إشارتك في منصة رقمية بسعر لا يتجاوز 15٪؜ من تكلفة الاستثمار في تعليم جامعي خصوصي حضوري.. من الخطأ تضييع العمر في تعليم جامعي فاشل في حين يمكن تعلم معارف ومهارات بحجم أكبر وبشكل أفضل وفي وقت أقصر من منصة رقمية عالمية.. من الخطأ أن نستمر رهائن في سجن التعليم الحضوري النمطي الذي يفرض عليك المنهاج والبرنامج والمادة والمدرس والأسلوب والعبد والمعبود والمعبد، في حين أن الأشكال الجديدة للتعلم تتيح لك خيارات متعددة ومتنوعة دون قيد عتبة انتقاء أو شرط اختبار قبول، وتسمح لك باختيار المادة التي تناسب احتياجاتك باللغة التي تواكب مستقبلك مع المدرس الذي ينسجم مع نمطك وبالأسلوب الذي يحقق الفعّالية والكفاءة والمتعة.
أما بعد، بالأمس (26 يونيو 2020) وقّع الرئيس الامريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذياً يأمر فيه الحكومة الفدرالية بالتوظيف بناء على القدرات والمهارات بدلا عن الشهادات الأكاديمية.. إنه مقطع صغير ينضاف إلى مقاطع أخرى مرت علينا في الفترة الأخيرة تباعا لكن في شكل علامات ضعيفة قلّ من ينتبه إليها ويحللها بشكل صحيح بربطها بالقصة ككل.. مقطع صغير من سيناريو الانفجار العظيم الذي تخطط له وتطبخه بنجاح الرأسمالية العالمية المتوحشة على نار سريعة وحامية أحيانا وهادئة أحايين.
إن ما يحدث هذه الأيام ليس تغييرا للعبة ولقواعدها وإنما تفجير لها من الداخل.. ما يحدث اليوم مثلا في قطاع التعليم بالكثير من الدول من شد وجذب وصراع بين بعض المؤسسات التعليمية الخصوصية وأولياء التلاميذ ما هو إلا بداية القصة التي لا تحكي عن نهاية المدرسة العمومية المجانية فقط أو التهديد الذي يطال المدرسة الخصوصية المحلية نفسها، وإنما عن تحول الكثير من المؤسسات والمفاهيم التي اخترعت في القرن التاسع عشر كالوظيفة العمومية والتوظيف مدى الحياة وأنظمة التقاعد والمصلحة العامة، والقطاع التعليمي الخاص المحلي في هذه القصة مجرد أداة يحرث الأرض ويُعدها لمؤسسات التعليم الخاص العالمي القادمة، وأمامه سنوات أخرى قليلة إضافية ليستفيد قبل أن يطوف عليها طائف الرأسمالية العالمية المتوحشة بجناحيها الواقعي والافتراضي ويأتي على الأخضر واليابس.
إن هذا التحوّل، من القديم الذي يُصَوَّر على أنه فاشل وبطيء ومُكلف إلى الجديد الذي يُقَدَّم على أنه فعّال وسريع ورخيص، إن كُتب لنا إنجازه بنجاح فسنكون فيه مكرهين لا أبطالا، وعبيداً لا سادة، ومفعولا بهم لا فاعلين، لأن الذي يصنع النموذج الجديد ويُرَوِّج له هو نفسه الذي صنع النموذج القديم وروّج له! لكن القديم استنفد أدوراه وحان أوان الجديد.
إن توجه الرأسمالية العالمية المفترسة نحو إعادة اختراع المدرسة والجامعة والوظائف والسوق وغيرها بما يخدم مصالحها لا يفرضه هاجس الافتراس المالي فقط، وإنما أيضاً عجز مؤسسات القرن التاسع عشر والعشرين عن مواكبة تطور الرأسمالية من رأسمالية صناعية إلى رأسمالية معرفية وعن أداء الوظائف الايديولوجية الجديدة التي تحتاج إليها رأسمالية القرن الواحد والعشرين. وستكون المؤسسات الجديدة في شكلها الجذاب والناعم والرقمي مؤسسات رأسمالية متوحشة مفترسة لتكافؤ الفرص ولحق الأجيال الجديدة في الانعتاق والحرية، لأنها ستعيد إنتاج عبودية القرن العشرين في أشكال جديدة تلائم احتياجات رأسمالية القرن الواحد والعشرين في الهيمنة الشمولية.. مع كل مؤسسة رأسمالية عالمية جديدة تشتغل بنموذج أعمال ذكي ومُبتكر وتكنولوجيات القطيعة (بلوكتشين، الذكاء الصناعي، أنترنت الأشياء، المعلوميات الكمية، البيانات الضخمة، التخزين السحابي…) وسند قوي من القرار السياسي الشبيه بقرار ترامب “التقدمي” (على شاكلة غوغل وميكروسوفت وفيسبوك وأوبر ويوديمي وكورسيرا…) ستتبخر عشرات الآلاف من المشاريع الصغيرة والمتوسطة وسيتشرد عشرات الملايين من العاملين مع أسرهم وستكون الفاتورة الاجتماعية للتنمية الاقتصادية وفق النموذج الرأسمالي المُفترس في القرن الواحد والعشرين مرة أخرى باهظة وأكثر توحشا مما كانت عليه في القرن العشرين.. إحدى النتائج المتوقعة لهذه السياسة الرأسمالية المتوحشة هو ظهور طبقة اجتماعية جديدة لا تصلح لأي شيء، وقد بدأت رأسمالية القرن الواحد والعشرين تفكر بجد في حلول لتحمل نفقة هذا الابن غير الشرعي لسياستها المتوحشة من قبيل “راتب عجز عالمي” يحمي من التشرد ويكفي للأكل والنوم وإعادة إنتاج منظومة العبودية العالمية.
إنها تجربة نجاح آخر لذكاء الرأسمالية المفترسة ونَفَسها الطويل في المواجهة ومَضاء إرادتها العابرة للأجيال وحربها الطبقية الماكرة على المستضعفين، ويستطيع الطيبون مع هذا الانتصار الجديد، ومع كل انتصار للرأسمالية المتوحشة المفترسة، أن يتابعوا انشغالاتهم البيزنطية أو أن يستنتجوا بمجهود تحليلي بسيط حجم غبائهم في التخطيط وفشلهم في المواجهة، وأن يُدركوا أن تلامذة داروين أكثر نباهة وذكاء وشغفا ومثابرة من مريدي كروبوتكين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق