المقالات

الاحتجاج في تاريخ الإسلام(محمد الصياد)_6_

طغيان مُستهجَن:
ولذا كانت السلطة -مهما بلغت قوتها- تعمل حسابا للعامة وتخشى صنيعها؛ ومن ذلك أن الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) يذكر -في تاريخه- أنه في سنة 284هـ/997م “عزم المعتضد بالله (العباسي ت 289هـ/902م) على لَعْن معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م) -رضي الله عنه- على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب (= مرسوم) بذلك يُقرأ على الناس”!!

ولم يتخلّ المعتضد عن قراره ذلك حتى خوّفه خاصته من رجال دولته من “أنْ تضطرب العامة ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة” احتجاجية، وما سينجم عن ذلك من سخط شعبي سيستغله ضده خصومُه من العلويين الثائرين بنواحي الدولة.

وتلك الرواية تُظهر احتياج الخلفاء والسلاطين إلى كسب ولاء العامة لإحداث توازن مع جماعات مناهضة ومعارِضة، لا سيما إذا ثارت وهاجت تلك الجماعات، فيخشى السلطان ألا يجد نصيرا من جمهور العامّة، وربما تحالفوا مع خصومه ضده.

ويندرج في الأنشطة الاحتجاجية لأسباب دينية مقاومة العامة لمظاهر الفرعونية السياسية؛ ومن نماذج ذلك ما ذكره الإمام ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- من أنه في سنة 411هـ/1021م “استقرّ أن يُزاد في ألقاب جلال الدولة (= السلطان أبو طاهر البويهي ت 435هـ/1044م) شاهِنْشاه الأعظم: ملِك الملوك، فأمر الخليفةُ (القائم بأمر الله العباسي ت 467هـ/1074م) بذلك فخُطب له به [في الجوامع]، فنَفَر العامةُ ورمَوْا الخطباءَ بالآجُرّ ووقعت فتنة”!!

ومن أسباب الاحتجاج في تاريخنا ما يكون لعوامل اجتماعية حين يتذمّر الناس مما يكدر نمط عيشهم، أو يؤثر في عاداتهم أو يكون فيه تعدٍّ على حرماتهم وينتهك خصوصياتهم. ومن أشهر ذلك ما وقع في أيام الخليفة المعتصم بالله (ت 227هـ/842م) حين استكثر من شراء وتجنيد المماليك الأتراك ليكونوا جيشه الخاص الذي يشد به أركان ملكه.

فقد أدت سياسته تلك إلى تضخم أعداد هؤلاء الجنود على نحو أزعج سكان عاصمة الخلافة؛ إذْ كانوا “يطردون خيلهم في بغداد ويؤذون الناس، وضاقت بهم البلد، فاجتمع إليه (= المعتصم) أهل بغداد وقالوا: إن لم تُخرج عنا بجندك حاربناك! قال: وكيف تحاربونني؟ قالوا: بسهام الأسحار (= الدعاء عليه وقت السَّحَر)! قال: لا طاقة لي بذلك!، فكان ذلك سبب بنائه (مدينة) سُرَّ مَنْ رأى (= سامَرّاء)، وتحول إليها” جاعلا منها عاصمة بديلة عن بغداد؛ وفقا للسيوطي.

ومن ذلك أيضا ما يحكيه ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- من أنه في سنة 329هـ/941م اضطربت الأوضاع السياسية والأمنية ببغداد، فـ”اجتمعت العامة في جامع دار السلطان، وتظلمت من الدَّيْلم (= عساكر البويهيين) ونزولهم في دورهم بغير أجرة، وتعديهم عليهم في معاملاتهم، فلم يقع إنكار لذلك [من السلطان]؛ فمنعت العامة الإمامَ من الصلاة وكسرت المنبرين..، ومنعهم الديلم من ذلك فقتلوا من الديلم جماعة”!!

وجاء عند المؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘اتّعاظ الحُنفا‘- أنه في سنة 387هـ/998م أطلق القائد الفاطمي أمين الدولة الحسن بن عمار الكُتامي (ت 390هـ/1001م) لجنوده العنان في المجتمع المصري “فكثر عتيُّهم، وامتدت أيديهم إلى الحُرُم في الطرقات، وشلحوا الناس ثيابهم، فضج الناس منهم واستغاثوا إليه بشكايتهم، فلم يَبدُ منه كبيرُ نكيرٍ”، ثم تفاقم حتى أدى إلى عزل ابن عمار عن وظيفته ثم اغتياله.

وما كاد المصريون يخلصون من عسف ابن عمار وعساكره حتى وقعوا في دوامة القرارات الرعناء والمتقلبة التي كان يصدرها الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (ت 411هـ/1021م)، وما أدت إليه من إفراط في كشف جهاز الاستخبارات الفاطمي لعورات المجتمع، وانتهاك جواسيسه -وكان بينهن نساء- لخصوصيات الناس في بيوتها.

فمن تلك القرارات ما ذكره ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- من أنه في سنة 405هـ/1015م “رتَّبَ في كل دربٍ (= شارع) أصحاب أخبار (= جواسيس) يطالعونه بما يعرفونه، ورتبوا لهم عجائز يدخلن الدُّور ويرفعن إليهم أخبار النساء، وأن فلانا يحب فلانة وفلانة تحب فلانا، وأن تلك تجتمع مع صديقها وهذا مع صاحبته، فكان أصحاب الأخبار يرفعون إليه ذلك، فينفذ (= يرسل) من يقبض على المرأة التي سمع عنها مثل ذلك، فإذا اجتمع عنده جماعة منهن أمر بتغريقهن، فافتضح الناسُ وضجوا من ذلك” بشتى أساليب الاحتجاج المتاحة لهم!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق