نشأة الدولة في المغرب_1_(محمد شقير)
أثارت إشكالية ظهور الدولة في المغرب اهتمام الباحثين المعاصرين بمختلف مشاربهم الفكرية و تخصصاتهم المختلفة و قد كان القاسم المشترك بين هؤلاء الباحثين هو اتفاقهم على أن الدولة المغربية دولة عريقة في القدم. فعلى سبيل المثال يرى جرمان عياش أن المغرب له تاريخ كدولة عريقة و موغلة في القدم (2)، في حين يرى دومو أن الدولة المغربية تتمتع بعمق تاريخي(3) .
غير أن الاتفاق حول عراقة الدولة المغربية ، لم يحسم الجدال حول تاريخ نشأتها . و يمكن أن نجسد هذا الجدال من خلال الأطروحات التالية :
– الأطروحة الأولى تؤكد على أن ظهور الدولة المغربية ارتبط بحكم الأدارسة .
– الأطروحة الثانية تربط بين نشأة الدولة المغربية و قيام المرابطين .
– الأطروحة الثالثة تؤكد على النشأة المزدوجة للدولة المغربية.
1 – نشأة الدولة مع الأدارسة
إن أغـلـب الـمـؤرخـيـن يـتـبـنـون هـذه الأطـروحـة ؛ حـيـث يـقـرنـون نـشـأة الـدولـة المـغـربية بقيام الأدارسة(4)، وهـكـذا يـرى شارل أندريه جوليان أن ” إدريس الثاني لم يكن فقط مؤسسا للمدن ؛ بل كان مؤسسا لأول دولة مغربية . ” (1)؛ أما تراس فيرى ” أن الأدارسة في محاولتهم جمع البوادي حول المدن ؛ اعتمدوا على تحالف بربري مكنهم مـن تـأسـيـس مـخـزن مختلط متكون من البربر و العرب ؛ الشيء الذي سيكون أساسا للمخزن الذي سيتكون فيما بعد . (2) “. بينما يرى العروي أن الدولة الادريسية كانت دولة جد بسيطة ؛ حيث كانت تتجسد في جيش يؤخذ من المنطقة و يمول من غنيمة الحروب و الجزية المفروضة على غير المسلمين . ” (3)
و إذا كانت هذه الأقوال، قد تعكس بعض الاختلاف في مواقف المؤرخين حول طبيعة حكم الأدارسة ، فإنها تتفق مع ذلك على أن الأدارسة هم أول من أسس أول حكم مركزي في المغرب . (4)
و تستند هذه الاطروحة على الأسس التالية :
أولا : الكتابات الاخبارية المغربية التي كرست دائما ” المسلمة التاريخية ” التي تؤكد ” على أن الدولة المغربية تبتدأ مع قيام الأدارسة” . و يتجلى ذلك في أغلب مضامين هذه الاخباريات ابتداء من روض القرطاس لابن زرع مرورا بتاريخ ابن خلدون و انتهاء باستقصا الناصري .
ثانيا : ربط ظهور الدولة المغربية بتأسيس مدينة فاس العاصمة السياسية للبلاد . و مادام التركيز على أن بناء فاس كان من طرف إدريس الثاني ، المؤسس الرئيسي لحكم الأدارسة ، فيتم الخلوص بداهة إلى أن نشأة الدولة المغربية يرتبط بظهور هؤلاء.
ثالثا : ترسيخ الجذور الايديولوجية للدولة المغربية ، و التي تتمثل في الأسس ” الاسلامية-العربية- السنية” الشيء الذي يتجسد بشكل خاص في التجربة الادريسية التي تغلب فيها الجانب الاسلامي و العنصر العربي على العنصر القبلي البربري(5) و مواجهة التطبيقات غير السنية للاسلام . (6)
رابعا : تكريس شرعية الأسر الحاكمة بالمغرب التي تستند على الأصول الشريفية للأدارسة و تعتبر نفسها امتدادا سياسيا لهم .
وعموما، فيمكن أن نوجه لهذه الأطروحة عدة انتقادات سواء من الناحية المنهجية أو من الناحية الموضوعية :
– فمن الناحية المنهجية ، فإن الاعتماد على الاخباريات المغربية في تحديد نشأة الدولة المغربية بظهور الأدارسة، يعتوره قـصـور عـلـمـي واضح نتيجة أن جل هذه الاخباريات كتبت في العهد المريني ؛ هذا العهد الذي تميز على الخصوص باستقرار السلطة المرينية بفاس و اتخاذها عاصمة سياسية لها(1) ، و كذا بغلبة العنصر العربي على دواليب الدولة (2). إضافة إلى ذلك ، شهد هذا العهد اعتناء السلاطين بالشرفاء و خاصة الشرفاء الأدارسة و تقوي نفوذهم ؛ هذا النفوذ الذي تكرس باكتشاف قبر مولاس ادريس الأكبر.
إذن ، فأغلب هذه الاخباريات كـتـبـت فـي إطار هذا المناخ الفكري و السياسي ؛ الشيء الذي أثر بشكل عام على تصورها لسيرورة الدولة المغربية .
و قد بقي هذا التصور سائدا في مختلف الاخباريات التي كتبت في العهود اللاحقة نظرا لعاملين رئيسين :
– الـعامـل الأول يـتجـسـد فـي أن الأسـر الـحاكـمـة الـتي أعـقـبـت الـمـريـنـيـيـن ، من سعديين و علويين، كان من مصلحتها تكريس هذا التصور نتيجة لاعتمادها على المشروعية الشريفية .
– العامل الثاني يكمن في الأسلوب الذي درج عليه الاخباريون ؛ حيث أنهم يقتبسون من بعضهم البعض دون أن يـعـيدوا الـنظر في الـمسلمات التي تقوم عليها الاخباريات السابقة سيما و أن القاسم المشترك الـذي يـجـمـع بـيـن كـل الاخباريين المغاربة هو اعتقادهم الراسخ أن الدولة ما هي إلا ” تداول متجدد للسلطة “؛ لذا فلا فائدةمن تحديد نشأة حكم يتغير باستمرار .
أما بالنـسبة للمؤرخين المعاصرين؛ فقد بقي أغلبهم ،يدور في نفس الحلقـة الاخبارية ، بحيث لم تظهر لحد الآن، كتابات تاريخية تحاول تحديد مراحل نشأة الدولة في المغرب . وقد ترجع أسباب ذلك إلى ما يلي :
– اهتمام أغلب الـمـؤرخـيـن المعاصرين بفترات تاريخية مجزأة (فترة سياسية، حكم أسرة حاكمة، حكم سلطان معين، تاريخ منطقة معينة…)
– الاهـتـمـام بالـتاريخ الـعـام ( الـمغرب العربي، شمال افريقيا، تاريخ المغرب…) و إهمال تاريخ الدولة بالمغرب.
– الاقـتـصـار عـلـى التـاريـخ الـحـديـث لـلـدولـة المـغربية ، و الذي غالبا ما يتم التركيز فيه على فترة الحماية(1)
– أما من الناحية الموضوعية، فلا يمكن الجزم بأن الدولة المغربية نشأت بظهور الأدارسة و ذلك لعدة أسباب
من أهمها :
أولا : إن هـناك مـصادر تاريخية لاتينية و أوربية تِؤكد على وجود ممالك بربرية نشأت بالمغرب قبل ميلاد المسيح . (2) بالاضافة إلى وجود وليلي التي شكلت أول عاصمة سياسية لهذه الممالك .
ثانيا : و حتى بعد الفتح الاسلامي للمغرب ، كانت هناك عدة إمارات سبقت و تزامنت مع الأدارسة كإمارة بني مدرار و إمارة النكور و برغواطة.
ثالثا : إن الادارسـة لم يـمـارسـوا نـفـوذهـم إلا عـلـى مناطق محدودة من المجال المغربي؛” بحيث اقـتـصـر تـأثـيـرهـم عـلى السهول الشـمـالـية للمغرب الأقصى إلى نهر أبي رقراق و على جبال الـريـف تـقـريب وجـبـال مـكـناسة و فـاس و الأطـلـس المـتوسط مـع تـوغـل في فزاز و تادلة في بلاد تازة و غالبا على جزء من المغرب الشرقي . ” (3)
رابعا : إن الأدارسـة رغـم تـمـكـنـهـم مـن وضع ملامح لسلطة مركزية ، التي تجسدت في بناء عاصمة سياسية و تكوين مخزن (4)؛ فهم لم يستطيعوا القضاء على الامارات المنافسة أو توحيد المجال المغربي تحت سلطتهم .
لمختلف هذه الأسباب ؛ فـإنـه مـن الـصـعـب جدا ربط نشأة الدولة المغربية بظهور الأدارسة (1)؛ و إن كان ذلك لا يـمـنـع مـن القول أن التجربة الادريسية ، كغيرها من التجارب السياسية التي سبقتها أو زامنتها، قد ساهمت بشكل كبير في بلورة ملامح الدولة بالمغرب. و يتجلى هذا الاسهام على الخصوص من خلال :
– بناء مقر للسلطة المركزية
– وضع بعض لبنات الاطار المخزني (2)
– نشر التنظيم السياسي . (3)
لكن كل هذا الاسهام السياسي لا يبرر ، موضوعيا ، تحديد بداية الدولة المغربية بقيام الأدارسة.