المقالات

منطق التوحيد وجدلية المفارقة والمحايثة في كتاب “الجماليات المتعالية “:(مراد ليمام)_1_

تتقوى ضرورة التجديد في  الفكر العربي الإسلامي عندما يتعلق الأمر بمراجعة الذات ومساءلة الهوية الثقافية. فيغدو الحديث عن الهوية العربية الإسلامية من وجهة نظر لغوية حديثا تنشدُّ إليه الذات العربية وتطرب له آذانها، لا سيما أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي تكفل سبحانه وتعالى برعايته وحفظه. ولعل هذا الأمر جعل الكثير من المهتمين بالدراسات اللسانية  والثقافية في مجتمعنا يؤمنون بأن حقيقة اللسان العربي حقيقة خالدة لكونه مرتبطا بخلود القرآن الكريم وصلاحيته لكل زمن ومكان. وبذلك لم يعد الجمال والأخلاق مفهومين معلقين في الفراغ داخل الخطاب القرآني، بل هما وجهان لعملة واحدة أو اسمان لمسمى واحد مادام الإنسان المسلم  مسكونا بهاجس البيان والتبيين داخل الجدل التاريخي المحكوم بالكشف عن الحقيقة. 

ففي إطار هذا الجدل لم تتوقف الإنسانية عن تجريب تصميمات العقل للمشاريع الحضارية، بل كثيرا ما كان هذا العقل مصنوعا بحضارته التي تتخذه نبراسا لها. فالسعي المكثف نحو  طلب الحقيقة والكشف عن معاييرها غالبا ما كان يصطدم بإبقاء الجمال ضمن حيز الغياب أو الانفصال عن الأخلاق بجعله ترفا تزويقيا. وفي كثير من الأحيان كانت الأخلاق مدخلا والجمال مآلا أخيرا لها. وبذلك أضاعت الإنسانية ضروب الحقيقة فلم تلتق بها سوى منقوصة. 

من هذا المنطلق، برز الصدع الديالكتيكي بين عزلة الأخلاق وتوأمها الجمال في متاهات التجريد الذي شيدته المذاهب والتيارات الفكرية الكبرى. لكن إهمال صلاحية الشروط النظرية لجدلية الأخلاق والجمال التي تأسست عليها المنطوقات الصورية لا تعني عدم جدواها، بل تمد الإنسان المسلم بآفاق جديدة لا تتوفر عليها تلك التيارات ليصبح الرهان الحاسم هو الإنصات الداخلي لحركية الخطاب القرآني بوصفه جزءا لا يتجزأ من المنعرج اللغوي الذي تأسست عليه جهود اللسانيين والعلماء العرب القدامى والمحدثين. 

فإذا كان الإنسان المسلم مفطورا على حب الحقيقة والسعي الحثيث إلى بلوغها فذلك لا يعني أنه صانعها، بل هو مكتشفها بتوزيع مساحاتها بين الجمال والأخلاق ليكون الأول من حصة اللغة والقول والتذوق، والثانية من حصة الواقع والفعل والسلوك: فالجمال حائز على رغبة المسلم في كشف الحقيقة من خلال فعل القول الذي يستوجب سماعا، وإنصاتا، وإجابة، وتواصلا. أما الأخلاق فتمتلك من الجمال قبليا معاييرها لكونه حاملا لموضوعها المشتت في موجودات العالم وأحوال النفس بوصفها آثارا للمطلق واللامتناهي. فهذا الأخير ممتنع أو بالأحرى عصيٌّ على الفهم لكونه مفارقا متعاليا، فيغدو الجمال هو علته بوصفه الضامن لواقعيته في الوجود الحسي عن طريق الترميز اللغوي. وكأن هذا الأخير بديل عن العجز في استحضار المطلوب تحت الحواس ليتحول الخطاب إلى بديل للغائب المُقدم في صورة الماثل عينه.

فلقد تلقى المسلم المعرفة لغة عن طريق السماع المقترن بالخطاب، فتحولت المعرفة إلى ضرب من الفصاحة والبيان بوصفهما حدين علميين ولسانيين أرسا صرح الكينونة لغويا. الفصاحة والبيان حدان استثنائيان يؤسسان الاختراق فعلا وقولا ببناء علاقة ذات بعد جمالي وأخلاقي مع اللغة أثناء السماع. هذا البناء يغدو جماعيا انطلاقا من الرابطة البيانية التي تجمع الإنسان المسلم بالخطاب القرآني الذي يستعير من المطلق والمتعالي هبته ليفتح باب السماع والإنصات بطلب التدبر والتفكر فيما هو مفارق في سياق العالم المحايث. ففي هذا الأخير يتجلى الكلي في حقيقة واقعية يستشعرها المسلم في ذاته انطلاقا من الصور الحسية وفعل الإنصات والسماع لرنين تلك المحسوسات عن طريق الخطاب القرآني. يؤسس هذا الخطاب الوحدة العضوية بين الموجودات في تناهيها وبين السمو نحو المطلق في لا تناهيه، ويشيع الطمأنينة الذاتية على نحو تستكين معه حيرة السؤال الحارق عن معنى الذات والحياة والوجود.

من هذه المنطلقات أسسنا ما يمكن الاحتجاج به للوقوف على ما اعتبرناه داعيا لتناولنا الدراسة اللسانية للدكتور إدريس مقبول والموسومة ب “الجماليات المتعالية- مقدمة في لسانيات القرآن الكريم-“. فالارتباط الكامن بين حضارة العرب المبنية في شموليتها على سحر الكلمة القرآنية وبيانها جعلنا نقبل على ما يحمله الكتاب من معان وتصورات متراكمة ودلالات متقاطعة ومتحولة للبعد الجمالي في الخطاب القرآني باعتباره بعدا في عملية تأسيس المعرفة والأخلاق. فقد خضعت هذه العملية التأسيسية  لتأثير النسق الداخلي للسان العربي مما ولَّد وعيا لدى الباحث بأهمية هذا اللسان  في نشوء أشكال مغايرة في التعامل معه انطلاقا من جهود السابقين دون الفصل “بين مجال الجماليات (الاستطيقا) والأخلاقيات (الايتيقا)”. ولعل ما تفيض به تلك الجهود هو السعي إلى تطويع جماليات الخطاب القرآني لبعض الضبط. فلقد استمد عمل الباحث أمصاله ومقولاته من تلك الجهود التي رفدته بخزين مصطلحاتها ومفاهيمها. لكن الباحث يفرد كتابه للبحث في مقومات جغرافيا الخطاب القرآني لتستوعب صورة جديدة أسقطها المشتغلون في نفس الحقل ويعمل في الآن ذاته على ترسيخ تلك الصورة بإقامة علاقة جدلية بين الجمال والأخلاق.

يبني الباحث فكرة الجماليات المتعالية على تصور منطقي ينطلق من مفهوم العلة بوصفها السبب الأول في تفسير مختلف الحقائق الثقافية المرتبطة بالظواهر الإنسانية. إنها الحقيقة الأنطولوجية السابقة على الوجود الفعلي باعتباره معلولا لها. ولعل المُبرر الذي جعل الكاتب يؤسس تصوره وفق هذا البناء اعتقاده الراسخ في تداخل الجمالي والأخلاقي في الخطاب القرآني كمبدإ أنطولوجي لتفسير الكون: فالصورة الابستمولوجية لكتاب الجماليات المتعالية تأخذ على عاتقها تفسير علة للكون انطلاقا من مقولتي الجمال والأخلاق دون تركهما منفصلتين منعزلتين، بل يُستنبط أحدهما من الآخر انطلاقا من الدلالات المنضدة في بنية الخطاب القرآني بوصفه أثرا للواحد المتحد في الجزئيات المختلفة. إنه الكلي المتعالي الذي لم يعد قوة مفارقة وإنما هو باطننا الذاتي الساكن في قلوبنا عن طريق السماع، وصورة الوجود الفعلي المُعطى في تعدد الموجودات الفعلية. 

وإذا كانت جاذبية الجمال في القول وجاذبية الأخلاق في الفعل، فإننا نجد معانيهما المُشكلة في الخطاب القرآني عملة لغوية تشف عن الواحد المنغل في المتعدد وتكشف الكوني الذي يمد جسرا مفهوميا نحو الكلي المتعالي. فالخطاب القرآني وفق تصور الباحث عنصر جوهري محقق للجمال لأن اللغة المحسوسة بحروفها، وكلماتها، وجُملها مادة يسري فيها معنى الجمال المفارق لتصير دلالاتها تجليا موضوعيا له في الكون والعالم الخارجي. لذا يصبح الخطاب القرآني المكتمل والمغلق في كمال هيئته اللغوية المضبوطة خطابا مفتوحا وثوريا لكونه متاحا أمام التفسير في مجال السعي والاجتهاد دون أن يؤثر على تفرده غير القابل للاختزال. وبهذا يكون “الانفجار الثوري المتواصل للغة القرآن الكريم” من أصول الجماليات المتعالية التي ترى أن الخطاب القرآني يقبل التماهي مع العوامل المختلفة للتلقي في البيئات والعصور المتتالية لانفتاحه وإنسانيته وخصوبته الجمالية. ومنبع هذه الأخيرة مفارق لكونه وحدة مجردة تمثل الأصل في الكمال المؤسس للقيم المتناسلة من الصفات الإلهية. كما أن هذه الصفات الدالة على “الأسماء الحسنى” هي المثل الأعلى الذي يتخذ شكله التعبيري  “المسطور” في الخطاب القرآني وشكله التجسيدي “المنظور”. فالمثل الأعلى للجماليات المتعالية يكشف عن طبيعته الحقة في الوجود اللغوي للخطاب القرآني بوصفه الحقيقة الواقعية المترجمة لكتلة الخصائص الجزئية في موجودات العالم المنظور. وبذلك يغدو المثل الأعلى للجمال “لغة الوحي” المجسدة في الخطاب القرآني باعتباره خطابا يعيد رصف موجودات الكون وتأمين بقائها والمحافظة عليها في حضن المحسوس الذي تتردد من خلاله كل جماليات المثل الأعلى.

واستنادا إلى هذا أمكننا القول إن ما يميز المثل الأعلى للجماليات المتعالية ثلاثة أصول متعلقة بثلاثة معان:

الأول “تصوري “، فالإلهي المنظور إليه في وحدته االنسقية يصير مُدركا بالسماع وميسورا للعيان من خلال مبدأ التماثل والانسجام الذي يستبعد كل اختلاف على نحو يشيع الطمأنينة والسكينة. لذا تتلقى تلك الوحدة النسقية حقيقة واقعية مزدوجة. فمن جهة، نجدها مُجسدة في مادة محسوسة تخلق عالما مدركا بالبصر ومسموعا بالأذن في الخطاب القرآني. ومن جهة أخرى، تنقل مضمون المثل الأعلى وتهبه تعيينا ووجودا خارجيا في عالم الظواهر. “والأصل التصوري في جوهره إيماني” لأنه يعكس القابلية والاستعداد لتذوق جماليات الخطاب القرآني انطلاقا من فكرة التوحيد التي ينشق من خلالها الواحد إلى كثرة. فالتوحيد بين المعرفة والوجود أصله إيماني -بحسب الكاتب إدريس مقبول- بناء على مبدإ الوحدة كصورة ابستمولوجية تفسر أن الكثير يمكن أن يظهر من الواحد عندما نجعل من تلك الكثرة وجودا في الواحد. فالإلهي جوهر يُظهر صفاته المتعددة باعتبارها كثرة تحتوي على قيم تشكل نسقا عضويا واحدا يندرج تحت وحدة نهائية هي المثل الأعلى للجماليات المتعالية في الخطاب القرآني. ففي القرآن يعيّن  مضمون كلام الوحي تركيبه اللغوي وشكله الذي يُعد جوهريا بوصفه جزءا من المضمون: فالشكل يتحد مع المضمون المتعالي ويندمج الواحد منهما في الآخر ليمسي الكل والأجزاء متعادلان متحدان.

والثاني “معرفي” هنا يتوقف فهم الخطاب القرآني وفك أقفاله على التمكن من اللسان العربي. فلقد نزل القرآن الكريم بلسان العرب و أساليبهم في التعبير، ليسير في ذلك على نهجهم. فمن أسرار روعة التعبير القرآني، أنه أكسب الألفاظ العربية مدلولات رائعة يمكن أن تفهم مجتمعة في آية واحدة أو تعبير واحد. استعمل القرآن الكريم ألفاظا عربية تشربها العرب من قبل، ثم ألبسها ثيابا جديدة اندغمت بالفكر اللغوي العربي، فاستعملها العرب لاحقا تأثرا بأسلوب القرآن في أشعارهم وخطبهم و رسائلهم منذ فجر الٳسلام ٳلى الآن. لذلك كان العلم بلغات العرب مدخلا قاعديا لفهم الاندماج اللغوي في البنية اللسانية للقرآن الكريم.

أما الثالث “ففني” تتجلى عبره الدلالة الفنية وصفة الإبداعية التي تميز بنية القرآن اللغوية  والمرتبطة أشد الارتباط بالطابع التصويري والإيحائي. إن مركب الوحدة والكثرة الذي ينطلق منه صاحب الكتاب يسلم بوجود بناء تحتي مرتبط بالجانب البياني في الخطاب القرآني، وبين بناء فوقي يتطلب التمرس والتمكن من قواعد بلاغة الكلام لينتظم التحتي في صورة معينة يكتسب بموجبها الخطاب القرآني دلالته الفنية. وبهذا المعنى تصبح القيمة الفنية المتمثلة في التركيب والتصوير الفني أسلوبا لإخراج الجماليات المتعالية بشكل غير مسبوق، ولانفتاح كنه الحقائق المغيبة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق