المقالات

مناط التكليف بين الفردية والجماعية (3) (الفروض العينية والكفائية) – مولاي المصطفى صوصي

المطلب الثاني: أهمية الفروض الكفائية، وعلاقتها بالعينية:

لا يخفى على ذي لب ما للفروض الكفائية من أهمية في حفظ كيان الأمة ووجودها المادي والمعنوي، ومدى حاجة الأمة الإسلامية لتحصيلها كي تحافظ على ذاتها ومصالحها الدينية والدنيوية، فهي تغطي مساحة واسعة من أفعال المكلفين وتدخل في جميع المجالات. فهي -كما قال الرافعي([1])– من الأمور الكلية التي تتعلق بها مصالح دينية ودنيوية، لا ينتظم أمر الأمة إلا بحصولها.

وإذا كان المتقدمون قد تعرضوا لمسألة التفاضل بينها وبين الفروض العينية، فذهب جمهورهم إلى تفضيل العينية على الكفائية، وأوردوا حججهم على ذلك، وكل ذلك في سياق اهتماماتهم وحاجاتهم … قال الامام الغزالي بعد ذكر مجموعة من الصفات: “فهذه وأمثالها من صفات القلب مغارس الفواحش ومنابت الأعمال المحظورة وأضدادها وهي الأخلاق المحمودة منبع الطاعات والقربات فالعلم بحدود هذه الأمور وحقائقها وأسبابها وثمراتها وعلاجها هو علم الآخرة وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى صلاح الدنيا وهذا بالإضافة إلى صلاح الآخرة ولو سئل فقيه عن معنى من هذه المعاني حتى عن الإخلاص مثلاً أو عن التوكل أو عن وجه الاحتراز عن الرياء لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة ولو سألته عن اللعان والظهار والسبق والرمي لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها وإن احتيج لم تخل البلد عمن يقوم بها ويكفيه مؤنة التعب فيها فلا يزال يتعب فيها ليلاً ونهاراً وفي حفظه ودرسه يغفل عما هو مهم في نفسه في الدين وإذا روجع فيه قال اشتغلت به لأنه علم الدين وفرض الكفاية ويلبس على نفسه وعلى غيره في تعلمه والفطن يعلم أنه لو كان غرضه أداء حق الأمر في فرض الكفاية لقدم عليه فرض العين بل قدم عليه كثيراً من فروض الكفايات فكم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه ثم لا نرى أحداً يشتغل به ويتهاترون على علم الفقه لا سيما الخلافيات والجدليات والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الوقائع فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء هيهات هيهات قد اندرس علم الدين بتلبيس العلماء السوء فالله تعالى المستعان وإليه الملاذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان”([2]). فقد أوردت النص على طوله لأجلي سياقات إيرادهم  لبعض المسائل، والتي كانت تعبر عن حاجاتهم، وحدود اهتماماتهم. ومن هذا القبيل أيضا ما نقل عن الشافعي([3]) من أن قطع الطواف المفروض مكروه لجنازة أو راتبة؛ إذ لا يحسن ترك فرض العين للكفاية والتطوع.

 وَأيضا قَول الْغَزَالِيُّ فِي “الْإِحْيَاءِ” فِي شُرُوطِ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْخِلَافِ: أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِهِ وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مَنْ لَمْ يَتَفَرَّغْ عَنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ. قَالَ: وَمَنْ عَلَيْهِ فَرْضُ عَيْنٍ فَاشْتَغَلَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَزَعَمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ الْحَقُّ فَهُوَ كَذَّابٌ”.

فإذا كان هذا هو حال المتقدمين فإن منهم من ذهب مذهبا آخر، أمثال إمام الحرمين، وأبوه محمَّد الجويْني، وأبو إسحاق الإسفراييني([4]).  يقول إمام الحرمين: “الَّذي أراه أنَّ القيام بما هو من فروض الكفايات أحْرى بإحْراز الدَّرجات، وأعْلى من فنون القُرُبات من فرائِض الأعيان، فإنَّ ما تعيَّن على المتعبّد المكلَّف لو تركه ولم يقابل أمر الشَّارع فيه بالارتِسام([5]) اختصَّ المأثم به، ولو أقامه فهو المثاب، ولو فرض تعْطيل فرض من فروض الكفايات لعمَّ المأثم على الكُفاة على اختلاف الرتب والدرجات، فالقائم به كاف نفسه وكافٍ المخاطبين الحرج والعقاب، وآملٌ أفضل الثَّواب”([6])، ولكوْن النَّفع في الأوَّل متعدِّيًا وفي الثاني قاصرًا، وما كان نفعه أكثر فهو مقدَّم على ما كان نفعُه أقل([7]).

ومع أن الحديث عن المفاضلة لا محل له إلا في حالات التعارض، فإن ما ينبغي تقريره هو أن العيني لا يكون إلا بالكفائي والخاص لا يكون إلا بالعام وهو ما قرره الإمام الشاطبي رحمة الله عليه بقوله: “الْمَقَاصِدُ الشَّرْعِيَّةُ ضَرْبَانِ: مَقَاصِدٌ أَصْلِيَّةٌ، وَمَقَاصِدٌ تَابِعَةٌ. فَأَمَّا الْمَقَاصِدُ الْأَصْلِيَّةُ، فَهِيَ الَّتِي لَا حَظَّ فِيهَا للمكلَّف، وَهَى الضَّرُورِيَّاتُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَا حَظَّ فِيهَا لِلْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ هِيَ ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا قِيَامٌ بِمَصَالِحَ عَامَّةٍ مُطْلَقَةٍ، لَا تَخْتَصُّ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، وَلَا بِصُورَةٍ دُونَ صُورَةٍ، وَلَا بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، لَكِنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى ضَرُورِيَّةٍ عَيْنِيَّةٍ، وَإِلَى ضَرُورِيَّةٍ كِفَائِيَّةٍ. فَأَمَّا كَوْنُهَا عَيْنِيَّةً، فَعَلَى كُلِّ مكلَّف فِي نَفْسِهِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ دِينِهِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا، وَبِحِفْظِ نَفْسِهِ قياما بضروريات حَيَاتِهِ، وَبِحِفْظِ عَقْلِهِ حِفْظًا لِمَوْرِدِ الْخِطَابِ مِنْ رَبِّهِ إِلَيْهِ، وَبِحِفْظِ نَسْلِهِ الْتِفَاتًا إِلَى بَقَاءِ عِوَضِهِ فِي عِمَارَةِ هَذِهِ الدَّارِ، وَرَعْيًا لَهُ عَنْ وَضْعِهِ فِي مَضْيَعَةِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ الْعَاطِفَةِ بِالرَّحْمَةِ عَلَى الْمَخْلُوقِ مِنْ مَائِهِ، وَبِحِفْظِ مَالِهِ اسْتِعَانَةً عَلَى إِقَامَةِ تِلْكَ الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ اخْتِيَارُ الْعَبْدِ خلاف هذه الأمور لجر عليه، ولحيل بينه وَبَيْنَ اخْتِيَارِهِ، فَمِنْ هُنَا صَارَ فِيهَا مَسْلُوبَ الْحَظِّ، مَحْكُومًا عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ صَارَ لَهُ فِيهَا حَظٌّ، فَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تَابِعَةٍ لِهَذَا الْمَقْصِدِ الْأَصْلِيِّ.

وَأَمَّا كَوْنُهَا كَفَائِيَّةً، فَمِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَنُوطَةً بِالْغَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، لِتَسْتَقِيمَ الْأَحْوَالُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا تَقُومُ الْخَاصَّةُ إِلَّا بِهَا، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مُكَمِّلٌ لِلْأَوَّلِ، فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ فِي كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا؛ إِذْ لَا يَقُومُ الْعَيْنِيُّ إِلَّا بِالْكِفَائِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكِفَائِيَّ قِيَامٌ بِمَصَالِحَ عَامَّةٍ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مَأْمُورٌ بِمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ تَخْصِيصٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ إِذْ ذَاكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ فَقَطْ، وَإِلَّا صَارَ عَيْنِيًّا، بَلْ بِإِقَامَةِ الْوُجُودِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ عَلَى حَسَبِ قُدْرَتِهِ وَمَا هيء لَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْوَاحِدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِصْلَاحِ نَفْسِهِ وَالْقِيَامِ بِجَمِيعِ أَهْلِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُومَ بِقَبِيلِةٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُومَ بِمَصَالِحِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْخَلْقَ خَلَائِفَ فِي إِقَامَةِ الضَّرُورِيَّاتِ الْعَامَّةِ، حَتَّى قَامَ الْمُلْكُ فِي الْأَرْضِ…”([8]).

وعلى هذا المهيع جرى الطاهر ابن عاشور، فقال: “المقاصد نوعان: أصلية وتبعية. فأما الأصلية فهي التي لا حَظَّ فيها للمكلّف. وهي الضروريات الخمس المعتبرة في كل ملّة، التي بها القيام بمصالح عامة مطلقة. وهذه على ضربين: عينية وكفائية. فالأولى وهي العينية واجبة على كل مكلف في نفسه… والثانية وهي الكفائية تعني القيام بالمصالح العامة لجميع الخلق. فبها استقامة نظام الأمة وحماية الضروريات”([9]).

فالذي يتحصل عندنا أن الفروض العينية (الفردية) لا تقوم إلا بالفروض الكفائية (الجماعية)، وأن الأحوال الخاصة لا تقوم إلا باستقامة الأحوال العامة. وأن إهمال الفروض الكفائية (الجماعية) يعود على الفروض العينية (الفردية) بالنقض والإخلال،  والأَدلة على ذلك كثيرة لا يُحْتَاجُ فيها إلى التَّطْويل.


([1])– ينظر التحبير شرح التحرير: (2/ 875) بتصرف.

([2])– إحياء علوم الدين: 1/21.

([3])– أسنى المطالب في شرح روض الطالب: 1/479-480.

([4])-ينظر: البحر المحيط للزركشي 1/ 250، غياث الأمم في التياث الظلم لإمام الحرمين الجويني: 357-358، الإحكام في أصول الإحكام 1/ 100، 101، شرح الكوكب المنير 1/ 377، البحر المحيط 1/ 252، شرح مختصر الروضة:: 2/ 410، المسودة في أصول الفقه: آل تيمية: 30، والقواعد والفوائد الأصولية: 188.

([5])-الارتسام معناه التكبير والتعوذ، والمقصود أن تارك الواجب الكفائي لم يعظم ربه في نفسه ولم يكبر أمره سبحانه عليه. انظر: لسان العرب، مادة (ر س م).

([6])-غياث الأمم في التياث الظلم لإمام الحرمين: 359.

([7])-ينظر: البحر المحيط 1/ 251.

([8])-الموافقات: 2/300-301.

([9])-مقاصد الشريعة الإسلامية، لمحمد الطاهر بن عاشور (تـ: 1393هـ)، المحقق: محمد الحبيب ابن الخوجة

الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، عام النشر: 1425 هـ – 2004 م: 2/145-146.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
    مقال رائع للدكتور مولاي مصطفى الصوصي؛ الأخ العزيز على قلوبنا
    في الحقيقة هو قدوة في الجد و الإجتهاد و العمل الدؤوب في تحصيل العلم النافع الذي ينفع صاحبه في الدنيا و الآخرة.
    تحية عالية للدكتور مولاي مصطفى الصوصي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق