مفهوم التراث بناء المستقبل و حفظ الذاكرة من خلال الترجمة الألمانية لبعض أعمال محمد عابد الجابري(عز العرب الحكيم بناني)
مقدمة: حضور محمد عابد الجابري بالغرب
بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاة الفيلسوف والمفكر المغربي محمد عابد الجابري، أنشر نص المداخلة التي قدمتها بمناسبة ذكرى وفاته في إحدى السنوات الماضية، وكنت قد حاولت التركيز على جانب لا يعرفه الكثير وهو ترجمة أعماله إلى اللغة الألمانية.
نتحدث عادة عن الجابري العربي، الذي نشر أعماله الفكرية باللغة العربية. لكننا نجد أيضا الجابري الألماني، بعد ترجمة مختارات من أعماله من اللغة الفرنسية إلى اللغة الألمانية، بعد أن استقر الأمر على ترجمة بعض النصوص من كتاب ‘نحن و التراث’ ومن كتاب ‘التراث و الحداثة’ تحت عنوان ‘مقدمة إلى نقد العقل العربي’. لكن الترجمة الألمانية اكتفت بترجمة بعض المقدمات و الفصول اعتمادا على الترجمة الفرنسية .
و قد نشرت بعض الصحف الألمانية مراجعات لكتاب الجابري الصادر بالألمانية، مثل المراجعة التي قام بها Martin Riexiner بصحيفة TAZ البرلينية، يوم 22 أغسطس 2009، بضعة أشهر قبل وفاة الجابري يوم 3 ماي 2010 ويتكون من 232 صفحة.
و قد أشاد الكاتب بصاحب العمل و بجرأة دار النشر المستقرة في مدينة برلين Perlenverlag على نشر هذا الكتاب الذي ترجم عن الفرنسية من طرف Vincent von Wroblewsky و Sarah Dornh.
وما ساعد على نشر الكتاب هو أن فريق دار النشر كان يتكون من جماعة من المناضلين الرومانسيين المتعاطفين مع القضايا العربية و الذين كانوا يرفعون راية التمرد و مناصرة قضايا العالم الثالث.
نشر المختص في العلوم الإسلامية المستعرب Stefan Weidner مقالة هامة عن كتاب الجابري بجريدة Neuen Zürcher Zeitung بزوريخ بسويسرا وقدم برنامجا تعريفيا بالكتاب يوم 20. 08. 2009 بالإذاعة الألمانية.
أســــئلة محيــــرة:
لا أريد في هذه المداخلة التذكير بالإشكاليات الكبرى التي بلورها محمد عابد الجابري في مختلف كتاباته حول بنية العقل العربي، ولكنني أشير إلى النقاط الأساسية التي أثارت انتباه القارئ الألماني، سواءً كان مترجما للكتاب أو ناقدا له. وبطبيعة الحال يوجد اختلاف كبير بين التلقي الذي يحظى به مشروع محمد عابد الجابري لدى القراء العرب المحملين بموروث الثقافة العربية الإسلامية وبين تلقي نفس المشروع لدى القراء الفرنسيين أو الألمان المحملين بموروث ثقافات أخرى مغايرة.
الغريب في القراءة الألمانية هو أن هذه القراءة استغلت القطيعة التي اعتقد المرحوم محمد عابد الجابري أنها موجودة بين الفلسفة المشرقية والغرب الإسلامي للتأكيد على التفوق الغربي. ومن أجل التأكيد على ذلك احتلت عبارة ex okzidente lux وتعني أن النور يأتي من الغرب، صدارة النقاش الفلسفي.
هل ظل الجابري يؤمن بوجود قطيعة بهذا المعنى بين الفلسفة المشرقية والفلسفة المغربية (بالمعنى العام للمغرب / الغرب الإسلامي) ؟ وهل كان يقصد أن الغرب الإسلامي يشترك مع الغرب المسيحي في نفس التراث الذي يرجع إلى أرسطو ويجد امتداده في الفكر الفلسفي الذي ظهر في الرشدية اللاتينية ؟ وهل معناه أننا نحن المغاربيين كنا سنشترك مع الغرب اللاتيني في نفس المسار لو أننا اعتبرنا أن أرسطو جزء لا يتجزأ من تاريخنا الفلسفية؟ وهل معناه أن تطور المشائية الإسلامية كانت ستعرف تطورا مماثلا للمشائية اللاتينية التي كانت في جزء منها ثمرة تفكير فلاسفة الإسلام؟ وأنا أطرح هذه الأسئلة المحيرة وأترك للقارئة والقارئ الكريم مؤونة فرصة مناقشة السؤال: هل أصبح الجابري فيلسوفا غربياً بالرغم من كل جهوده لحصر إنتاجه الفلسفي في دراسة الثقافة الفلسفية المكتوبة باللغة العربية.
وردت عبارة ex okzidente lux في مقالة الكاتب الناقد فايدنر و في مقدمة الترجمة الألمانية. ذلك أن الكاتب قد استهل المراجعة بنفس الشعار الذي حملته مقدمة الترجمة الألمانية التي اشترك فيها كل من الناشر و فيلسوف السياسة Reginald Grünenberg صاحب كتاب عن “الطريق الطويل من الرعايا إلى المواطنين « Der lange Weg vom Untertan zum Bürger » (برلين 1996) و اشتركت فيه المتخصصة في الإسلامولوجيا و نائبة مركز الشرق الحديث ببرلين Zentrum Moderner Orient (ZMO) صونيا حجازي Sonia Hegasy صاحبة كتاب عن “الدولة و الرأي العمومي و المجتمع المدني بالمغرب” (هامبورغ 1997) Staat, Öffentlichkeit und Zivilgesellschaft in Marokko.
العلم و السياسة بين الاتصال و الانفصال
يفيد هذا الشعار «ex okzidente lux » أن الأنوار قد جاءت أولا في تصور المرحوم الجابري من الغرب الإسلامي، ثم من الغرب المسيحي بعد استقالة العقل العربي. و قد ركز المراجعون على الأطروحات الجريئة التي أثارت جدلا واسعا، و لاسيما الأطروحة التي أكدت على وجود “قطيعة إبستملوجية” بين الفلسفة المشرقية و الفلسفة الأندلسية المغربية. يهدف المراجعون ضمنيا إلى تأكيد التفوق الغربي، و إلى تفوق العقلانية الحديثة، بالرغم من عدم إجماع كل المؤرخين على أطروحة الجابري التي تفيد أن الغرب قد تابع مسيرة التقدم التي استند فيها إلى الفلسفة الرشدية بعد تخلي العرب عنها.
يعود الفضل إلى فلاسفة الغرب الإسلامي في استئناف المنظومة المعرفية البرهانية الأرسطية، على خلاف الاعتماد على القياس و المماثلة في بلاد المشرق. و السؤال الذي طرح بحدة هو التالي: لماذا تخلف الفكر الأندلسي المغربي بالرغم من كل الازدهار الذي عرفه؟ إن السبب الرئيسي حسب الجابري، كما جاء في تقديم الترجمة الألمانية هو العامل السياسي، بعدما كف العلم عن أداء الوظيفة المحركة في الثقافة العربية الإسلامية. أثارت مشكلة الإمامة أزمة شرعية الخلافة، و قد تحولت هذه المشكلة إلى عامل ‘إيديولوجي’، كما يقول من أجل إذكاء كل الصراعات، مما جعل المعرفة في خدمة السلطة بدل أن تصبح في خدمة اكتشاف الطبيعة. و هكذا، كان التخلف ناتجا عن التوظيف السياسي للمعرفة. كما أن هناك معطى آخر أكد عليه الجابري و هو التيارات العقلانية الكبرى التي عرفتها الحضارة الإسلامية في مرحلة ازدهارها كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالبلاطات، مما جعلها ترتبط بالإيديولوجية الرسمية للدولة، بينما تشكلت حركات التمرد على الدولة من كل الأفكار اللاعقلانية. و حينما سعت الدولة إلى التصدي لكل مخاطر الانهيار، أصبحت مضطرة إلى تبني الإيديولوجيات اللاعقلانية و إلى التحالف معها و نشرها، مما جعل الفكر العقلاني هامشيا داخل المجتمع.
إن هذا التفسير الذي يقدمه الجابري لعامل التخلف لم يكن بعيدا جدا عن تصور ماكس فيبر، و عن التساؤل، لماذا عرف الغرب تطورا استثنائيا خاصا به، كما جاء في مقالة Wolfgang Schluchter عن “الدين و السلطة السياسية و الاقتصاد و نمط الحياة البورجوازي” « Religion, politische Herrschaft, Wirtschaft und bürgerliche Lebensführung. Die Okzidentale Sonderentwicklung » . أكد شلوختر على الدور الذي لعبه الفصل بين السلطات السياسية و العلمية و الاقتصادية في توزيع العمل و خلق استقلالية نسبية لكل مجال على حدة. بهذا المعنى، يجوز لنا أن نعتبر أن تصور العقلانية لا يبتعد كثيرا عن التصور الذي دافع عنه ماكس فيبر، لكنه أراد أن يربط فيه بين المعرفة و الحرية. نستطيع استئناف التراث العقلاني الرشدي إذا ما استطعنا معرفة كل الممكنات و الآفاق التي كانت مفتوحة أمام العقل البرهاني في الفلسفة المغربية الأندلسية، دون أن تتحقق تلك الممكنات بحكم تدخل السياسة في سد آفاق العلم و تغليب العقل البياني و العرفان. و لعل الشيء الإيجابي في تصور الجابري هو تأكيده على تدخل المبادرة في إعادة الربط بين العقل و العلم و على استقلال المعرفة عن التدخل السياسي.
و إذا كانت الفلسفة المغربية الأندلسية قد انهارت بعد استقالة العقل البرهاني أمام العرفان و البيان، بعد تدخل السلطة السياسية لإرضاء الجمهور، يجب إبراز الآليات التي تتحكم في العقل العربي و تحرير قدرات المبادرة لدى الأفراد.
كان نيتشه قد أبرز مساوئ و إيجابيات التاريخ بالنسبة للحياة في الكتاب الثاني من considérations inactuelles, ou intempestives . تحدث نيتشه عن العبء الذي يطرحه التاريخ على كاهل الإنسان، بالمقابل، تحدث الجابري عن العبء الذي يلقيه التراث على كاهل المسلم. مع دلك، يوجد فرق بين عبء التاريخ و عبء التراث.
يعتبر الجابري بهذا الخصوص أن الغرب المعاصر قد تلقى تراثه الغربي القديم بصورة متدرجة متصلة، من خلال تهذيبه و تشذيبه و ملاءمته المستمرة مع حاجات العصر، في حين يتلقى العرب تراثهم ككل منقطع و منفصل عن حياتهم المعاصرة بحكم عصر الانحطاط الذي باعد بينهم و بين الموروث. أنشأ الغرب هيرمينوطيقا نقدية جعلت التراث مألوفا دون أن يصبح مقدسا، و جعلته معيشا دون أن يصبح أداة استلاب. بالمقابل كرس العرب الهيرمينوطيقا التراثية من خلال قراءة التراث بالتراث، بما أن التراث أصبح مقدسا و غريبا عنا و كنزا مجهولا يقبل الاستعادة و الاسترجاع.
و عليه، من الواجب تأسيس هيرمينوطيقا نقدية تقرأ التراث القديم من خارج التراث، دون أن يتطابق هذا الخارج مع الموقف الليبرالي أو الاستشراقي، و تبحث من داخل الذات المعاصرة عن تجاوز عوامل التخلف.
الخطوة المنهجية: الفصل و الوصل
ينطلق الجابري من وجود هوية عربية ذاتية و من وجود واقع عربي مستقل يستطيع مراجعة إرثه الثقافي بالاعتماد على الذات و دون الاعتماد على مرجعية أجنبية. نستطيع من الناحية المنهجية القيام بخطوتين: فصل المقروء عن القارئ (مشكلة الموضوعية) و وصل القارئ بالمقروء (مشكلة الاستمرارية). نستطيع استئناف الاستمرارية مع التراث من خلال ابتكار القارئ من جديد بدل استيراد القارئ من الغرب. يتطلب البحث في تكوين العقل العربي التراثي خلق قارئ عربي نقدي. يشبه القارئ في البداية الإنسان الذي يحمل أثقال الماضي، وفق الصورة المجازية التي نحتها نيتشه، فالنصوص العربية هي التي تقرأ القارئ العربي و ليس القارئ هو من يقرأ النصوص. “القارئ العربي مؤطر بتراثه، بمعنى أن التراث يحتويه احتواء يفقده استقلاله و حريته (…) و لذلك فعندما يقرأ القارئ العربي نصا من نصوص تراثه يقرأه متذكرا لا مكتشفا و لا مستفهما.” و يقدم الجابري مثال اللغة العربية “التي ظلت هي هي منذ أربعة عشر قرنا أو يزيد ‘تصنع’ الثقافة و الفكر دون أن تصنعها الثقافة و الفكر، فبقيت بذلك الجزء الأكثر ‘تراثية’ في التراث – لنقل الجزء الأكثر أصالة- و من هنا قدسيتها”.
إن فصل الذات عن الموضوع أصبح مألوفا بالغرب، بمعنى تحرير الذات من الموضوع و تمكينها من تحصيل المسافة المكانية اللازمة اتجاه الموضوع حتى تتمكن من رؤيته. بالمقابل، تم تعزيز وصل الذات بالموضوع و تكبيل الذات داخل الموضوع أي داخل التراث الديني. فالقارئ يستظهر القرآن عن ظهر قلب دون أن يستوعبه، أو دون أن يتجاوز التأويلات التقليدية المعروفة لدى المفسرين. لا يملك القارئ استقلالا عن النص، بل أصبح مكبلا بالنصوص التي كتبها علماء الحديث و علماء الأصول و التفسير. و لم يعد بالإمكان التوصل إلى أحكام شرعية إلا باعتماد على القياس. و بالرغم من أن القياس الأصولي قد نجح بصورة باهرة في تعليل الأحكام الشرعية و في رد الفروع إلى الأصول، فإن المعارف المكتسبة من ذلك ظلت ضئيلة و محدودة و لم تستطع ردم الهوة بين قراءة النصوص و قراءة الواقع و لا الهوة الموجودة بين فقه النص و فقه الواقع.
من التراث إلى الذات التراثية
إن النقد الذي يوجهه الجابري إلى العقلية التراثية يبتغي تحرير القارئ المعاصر من القيود التي تمنعه من فهم التراث فهما موضوعيا. و عليه، يكتسب النقد لديه طابعا كانطيا بامتياز. التراجع عن الموضوع (التراث) من أجل البحث داخل الذات عن إمكان شروط المعرفة و عن حدودها. لا يعني التحرر من الموضوع التراثي السقوط من جديد في أحضان تراث فكري مخالف. على العكس من ذلك، ينبغي الاستمرار في تبني المنهجية الكانطية و البحث من قلب المنظومات المعرفية التي تحكمت في العقل العربي عن نقاط الضعف التي أدت إلى انسداد الآفاق المعرفية. بالفعل، نجد تشابها بين تلك البنيات اللاشعورية التي تحكمت في العقل العربي و بين المفاهيم التي نحتها كل من فوكو (إبستيمي) و كون (الباراديغم) و لوهمان (النسق). لكن تصور الجابري يتمتع بخصائص تميزه عن غيره، و عن فوكو تحديدا: تحدث الجابري عن تعايش منظومات معرفية متباينة في ذات الوقت (البيان و البرهان و العرفان)، بينما اعتبر فوكو أن عصر النهضة كان محكوما بمنظومة معرفية واحدة و هي منظومة التشابه. كما أن تلك المنظومات لا تتغير و تشتغل بطريقة لاشعورية و لا يملك المرء أن يتدخل فيها لدى الفلاسفة الغربيين، على غرار مفهوم ‘مكر التاريخ’ لدى هيغل. بالمقابل، يعتبر الجابري أنه بالإمكان التدخل في تلك البنيات المعرفية عبر خطوتين متكاملتين:
– الخطوة الأولى هي حصر العقل البياني داخل الإطار الذي ينبغي له أن يلتزم حدوده، دون أن يخرج بالقياس من مجاله الخاص إلى كل المجالات المعرفية، أي دون أن يتحول إلى مماثلة أي شيء بأي شيء كما هو معروف في العرفان.
– الخطوة الثانية هي تحرير العقلانية الرشدية من القيود التي كيلها بها البيان و العرفان و الاستفادة من الآفاق التي فتحتها و لم تتحقق لدينا، بل تحققت في الغرب المسيحي.
ذلك أن ما نريد “أن نتعامل معه اليوم من التراث، ليس التراث كما عاشه أجدادنا، و كما تحتفظ لنا به الكتب، بل ما تبقى منه، أي ما بقي منه صالحا لأن يعيش معنا بعض مشاغلنا الراهنة و قابلا للتطوير و الإغناء ليعيش معنا مستقبلنا… و ذلك هو معنى الأصالة”.
خاتـــــــمة
إن مشروع الجابري قام على تصور نضالي للفلسفة يجمع فيها بين دراسة المحتوى المعرفي و إبراز المضمون الإيديولوجي كما كان مألوفا خلال العقود السابقة بالمغرب. لقد كان حريصا على المقابلة بين الماضي كما نود إعادة بنائه من قلب المستقبل و بين المستقبل الذي نريد أن يريد البعض منه أن يتحول إلى صورة متكررة من الماضي. لكن الجابري نظر إلى التراث من موقع المستقبل انطلاقا من هاجس الحرية و التقدم. حاول التركيز في الماضي على الجوانب المضيئة التي قد تسهم في صنع المستقبل، مثل الفلسفة المغربية الأندلسية، كما تمثلت في العقل البرهاني مع الفلسفة الرشدية. و بالرغم من اعتراضه على قراءة التراث بالتراث، كما يقر بأهمية حفظ الذاكرة، و بناء ذاكرة جماعية رشدية من أجل مواجهة العقلية البيانية عندما تتجاوز حدودها و مذاهب العرفان التي تنتمي إلى “أصول غير عربية” في جوهرها. و بصرف النظر عن مدى صحة كل الأطروحات التي قدمها الجابري، فهي تمتاز بأفكارها التي خلقت جدلا واسعا داخل المحافل الأكاديمية على المستوى العربي (مثل التمييز بين الفلسفة المشرقية و الفلسفة المغربية). وحتى ولو جاز التأكيد اليوم على أن النور يأتي المغرب، فإنه لا بد من التأكيد كذلك على أن الشمس تأتي من المشرق. وبالتالي، نحتاج إلى المشرق والمغرب، ما دمنا نعيش في عالم واحد تسطع فيه الشمس على الجميع.