المقالات

قراءة في “جدل الطبيعيات والإلهيات بين ابن سينا وابن رشد” يوسف بن عدي

في السياق الاشكالي العام

إنَّ منْ  يقرأ تهافت التهافت لأبي الوليد بن رشد سيلحظٌ حضور قسمين كبيرين كانا موضع الجدل الفلسفي بينه وبين أبي حامد الغزالي، وهما: قسم الإلهيات وقسم الطبيعيات. فتقديم الإلهيات على الطبيعيات له من المآلات المذهبية والعلمية والأيديولوجية الهائلة. بيد أنّ الأمر المثير للعُجب والاستغراب هو حفاظ ابن رشد في تهافت التهافت على نفس بينة كتاب تهافت الفلاسفة  للغزالي. وبكلمة جامعة نقول إنّ جدل الطبيعيات والالهيات قد كان ومازال موضع نظر شديد في تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم عند الفلاسفة المسلمين.

لقد تناولتْ بعض الكتابات العربية المعاصرة اشكال جدل الطبيعيات والالهيات في سياق الحديث في تصنيف العلوم الجزئية والكلية، ونذكر منها:« العلوم الطبيعية عند ابن رشد»(1995) و« فلسفة المادة والصورة والعدم عند ابن رشد»(2007)لحسن مجيد العبيدي ونجد كذلك الفلسفة الطبيعية لابن سينا(1998) لعاطف العراقي. فهذه المؤلفات وإنْ عرجت على اشكال العلاقة بين العلم والميتافيزيقا فإنّ هذا العروج لم يكن إلا عرضياً أعني لم يكن بالقصد الأول.

ويبدو أن ما حرره الفقيد جمال الدين العلوي في بيان العلاقة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة والعلاقة بينهما وبين نظرية البرهان هو منطلق حقيقي للتفكير في جدل العلم والميتافيزيقا عند ابن سينا وابن رشد. ويظهر هذا في ثلاث دراسات دقيقة، مازالت تحتفظُ بالجدة الاشكالية والعلمية إلى يومنا هذا، بالرغم من صدور الكثير من النصوص الفلسفية الرشدية، وهي :«اشكال العلاقة بين العلم الطبيعي وما بعد الطبيعة عند ابن رشد»، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، عدد خاص3،1980. و«نظرية البرهان ودلالتها في الخطاب الفلسفي لابن رشد» ضمن ندوة حلقة وصل بين الشرق والغرب أبو حامد الغزالي وموسى بن ميمون (ندوات أكاديمية المملكة المغربية، أكادير: السفر الثاني عشر من مطبوعات الأكاديمية،14-16ربيع الأول سنة 1406/27-29 نونبر سنة 1985)، وأخيراً :«ملاحظات حول تطور نظرية البرهان عند ابن رشد» ضمن مجلة الصورة، مجلة النقد الأدبي والبحث  الفلسفي،(الدار البيضاء: دار النشر المغربية،: السنة الأولى، العدد الأول-خريف 1998).

ويتحقق من هذا، أنّ جدل الطبيعيات والإلهيات بين ابن سينا وابن رشد للباحث محمد مزوز يتدرج في هذا المعرض، أعني معرض النظر في الجدل الرهيب بين العلم والميتافيزيقا في تاريخ الفلسفة باعتباره الجدل في مدى مشروعية أو عدم مشروعية العلم الإلهي أو العلم الأعلى في الهيمنة على العلوم الجزئية!؟

أحسب أنّ من يقرأ نصا من النصوص لهذا المؤلف أو ذاك من دون تحوط نهجي ونظري يتمثل في استحضار السياق الذي ولد فيه هذا المولود والفراش الذي ازدان فيه إنما سوف يقع هذا القارئ في رؤية اختزالية وتبسيطية مبتذلة. وعلى هذا،أقول إنَّ جدل الطبيعيات والإلهيات بين ابن سينا وابن رشد(2017)،ومع وعينا الكامل بأنّ هذا العمل هو عمل جامعي حصل فيها محمد مزوز على دبلوم الدراسات العليا سنة 1991 تحت اشراف الفقيد محمد عابد الجابري[1] فإنّ اخراجه من القوة إلى لفعل إنما يكسبُهُ  قوة سياقية جديدة إنْ صح التعبير؛ ومن ثم، فلا يمكنه فصل هذا المؤلَّف عن باقي النصوص الأخرى وهي: مشكلة الوجود بين ابن رشد وأرسطو(2014)[2]  و «من أجل انطولوجيا إسلامية مساهمة في تحديد الوعي الإسلامي»(2001)[3].إذ إنّ حضور العلم  والميتافيزيقا لا يكاد يفتر ويغيب فيهما.

ومن ذلك صدر هذا الكتاب «جدل الطبيعيات والإلهيات بين ابن سينا وابن رشد» عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، بيروت، تاريخ الطبعة الأولى 2017.عدد الصفحات 278. والمؤلف محمد مزوز هو استاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط.

بنية الكتاب وفصوله

يتأسس جدل الطبيعيات والإلهيات بين ابن سينا وابن رشد للباحث محمد مزوز على مفاهيم مركزية دفعته إلى توزيعها على اقسام الكتاب وفصوله. وهذه المفاهيم هي : الواحد، العلم،الجوهر.لقد شكّل هذا الثالوث المفهومي بؤرة التوتر النظري والاشكالي  والمذهبي في بناء موقف من العلم الالهي والعلم الطبيعي.

وهكذا جاء الكتاب موزعاً إلى مقدمة عامة وثلاثة أقسام وخاتمة عامة. فالمحرك الأساس والرئيس لتيمة المؤلف هو الآتي: هل العلاقة بين مقدمات العلم الطبيعي وأصول مبادئ علم ما بعد الطبيعة هي علاقة تؤسس على رؤية علمية تصنيفية أم أنها علاقة مذهبية ورؤيوية وأيديولوجية؟[4]

تأتي مقدمة الكتاب في سياق وضع الأرضية النظرية والأيديولوجية العامة للصراع بين ابن سينا وابن رشد في موضوع العلوم الجزئية والعلوم الكلية.ولهذا الأمر مستنداته الفلسفية والعلمية المعتبرة من قبيل أن الاختلاف في الموضوع هو أيضا يعكس الاختلاف في المنهج بمعنى« الاختلاف من الموضوعات إلى البراهين أي من مجال النظر إلى وسيلة»[5]. ويتولد عن هذا، أن «ابن سينا يمثل قمة تطور الفلسفة الإسلامية في المشرق.  بينما يمثلُ ابن رشد قمة تطورها في المغرب والأندلس»[6].فالأول يذيع بين الناس القول الواحد الميتافيزيقي الخارج عن الوجود، والمانح لسائر الموجودات والأشياء ماهيتها ومقوماتها، والثاني يدعو إلى الواحد “الذاتي” الذي يلازم الوجود وانحائه وتجلياته المختلفة الطبيعية والالهية والبيولوجية والعلمية..يقول الباحث مزوز:«هكذا، سيكونُ البحث في علاقةِ العلم بالميتافيزيقا عند كلّ من ابن سينا وابن رشد بحثاً يهدف إلى لمس العلاقة بين مفهوم الواحد في صيغته الإلهية وبين مفهوم الواحد في صيغته الطبيعية[…] والحسم في هذه العلاقة سيكرسُ رؤية معينة للعالم، وتفسيراً للكون يسترشد إما بمعطيات العلم الطبيعي، وإما بمعطيات العلم الإلهي»[7].

يضمُ القسم الأول(مفهوم العلم) من هذا الكتاب ثلاثة فصول متماسكة. الفصل الأول(مفهوم الواحد) بحيث يروم المؤلف إلى بيان طبيعية التفكير في الواحد في الثقافيتين اليونانية والإسلامية. فالواحد عند اليونان قد كان له صيغة طبيعية ورياضية لتفسير الوجود ومحاولاتهم المستمرة في رد الكل إلى الواحد سواء كان طبيعيا أو عددياً[8] وقد كان لهذا الأمر انعكاساً مذهبياً وفلسفياً واضحاً أعني بين التفسير الأفلاطوني للعالم والمعرفة والتفسير الأرسطي الذي نافح بقوة على القول بـ«الطبيعة الكلية السارية بين الجزئيات المحسوسة»[9]. والمحصلة الخطيرة هو نشوء تيارات عرفانية هرمسية ودينية تنقض مبادئ العقل[10].أما الواحد في السياق العربي الاسلامي فلم يبرح عالم الغيبيات بل الأكثر من ذلك صار الغيب هو مقياس المعرفة والمنتج لها في اطار شروط غيبية. يقول المؤلف: «هذا المعنى الغيبي الذي اكسبهُ مفهوم العلم كان ضرورياً للدفاع عن قضية التوحيد. ذلك أنَّ معرفة الواحد في صيغته الإلهية غير ممكنة إلا بجواز العلم بالغيب »[11].هذا العلم الذي سيلقي بظلاله في تكريس الواحد الالهي والديني في علوم الفقه وعلم اصول الفقه وعلم الحديث والتفسير وعلم الكلام فضلا عن ذلك ميلاد تأويلات باطنية وعرفانية وصوفية تتوهم بأن الواحد هو الملاذ الأوحد في تفسير العالم وموجوداته. ويتحصل من ذلك « العلوم الاسلامية لم تُعنَ بتشييد موضوع علمي يستند إلى الروح “الوضعية”،بل كانت هذه العلوم ترفرف حول الغيب وعملتْ جاهدة لتقنينه وضبطه دون جدوى.

لقد غابتْ الطبيعة موضوعاً للعلم من التصور الاسلامي، إذ نُظر إليها من زاوية الخلق»[12] وهذا ايضا يرتد إلى اشتغالها بتاويل الكلام الإلهي[13]. إذاً، هل ينتسبُ هذا النوع من التفكير في الواحد وما ينتج عنه إلى شروط المعرفة العلمية؟

يبدو أنّ موضع الاجابة على هذا السؤال هو الفصل الثاني( نظرية العلم) الذي راهن فيه الباحث على بيان الفروق بين المخاطبات البشرية التي تتنوع وفق مقام المخاطب وسؤاله وغرضه من قول جدلي وقول سفسطائي وقول شعري وقول خطبي(الخطابة) و قول برهاني وبعد ان حدد المؤلف طبيعية كلّ قول من الأقوال المنطقية دلالياً وبنيوياً[14] ركز انشغاله على نقطة مهمة ولطالما كانت موضع التباس فلسفي ومنطقي كبير؛ وهي علاقة القول الجدلي بالقول البرهاني؛ فمع أن مشغل القول الجدلي يختلف عن المشغل البرهاني سواء في مقدماته او مبادئه او أغراضه، فإن الجدل يظل« معين للبرهان»[15] ثم يقول المؤلف في موضع آخر: «هنا يمكن أن ينزلق الخطاب البرهاني إلى مراتب الخطاب الجدلي[…]وقد يرجع هذا الانزلاق “الابستيمولوجي” أيضاً إلى كذهب ينافح عنه العالم أو رؤية عقائدية توجهه في خفاء»[16]. فهل القول بأنّ الجدل معين للبرهان مضاد للقول بانزلاق البرهان للمرتبة الجدلية؟!

لعل الشق من الجواب على هذا التساؤل يترجم في الفصل الثالث(ممارسة العلم) يعني بيان مظاهر وتجليات ممارسة المعرفة العلمية في الفكر العربي الاسلامي الكلاسيكي؛ فإنتاج المعارف والعلوم لم يكن في منأى عن الامور الغيبية إذ إنّ النص الديني هو مدارها ونطلق تصوراتها للعالم والوجود كما سبق أن ألمحنا لذلك. ولمكان علم الكلام من أهم العلوم الاسلامية وأكثرها ممارسة للقول الجدلي لطبيعة الموضوعات المفحوصة (القدم والحدوث، علم الله الكليات، البعث وحشر الأجساد) فإنّ منتوجها سيكون ،حتماً، جدلياً.

وعلى هذا، يخلصُ المؤلف إلى أنّ الخطاب الجدلي هو« العدو الأكثر للخطاب العلمي»[17] يقول أيضاً منتقداُ ابن سينا:« انزلق الخطاب العلمي مع ابن سينا إلى حقل علم الكلام لأنه استعمل مقدمات غير برهانية تتألف من ألفاظ سُفسطائية[…] وعندما يتم الخروج عن شروط البرهان، فإننا نخرجُ من حقل العلم إلى ممارسة معرفية أخرى»[18].وبيان ذلك أيضاً أنّ مشروع الرجلين ابن سينا وابن رشد هو مشروعين متضادين بين فلسفة فيضية محركها الجدل وبين فلسفة علمية عقلانية محركها البرهان بالقصد الأول والأخير[19]. هل بالفعل أن تقديم العلم الإلهي على العلم الطبيعي هو تكريس لرؤية ايديولوجية ومذهبية؟.

يحتوي القسم الثاني(موضوع العلم) على فصلين متكاملين؛ الفصل الأول (تصنيف العلوم) يبرزُ فكرة مهمة مفادها أنَّ العلم النظري «يضم ثلاثة علوم فرعية هي العلم الطبيعي والرياضيات والفلسفة الأولى. وهذا الانقسام الثلاثي للعلوم فرضهُ انقسام الموجودات أو الموضوعات من حيثُ طبيعتها»[20].

فلمكان العلم الطبيعي لا يقدرُ على أن يبرهنَ على مبادئ العلوم، فإنّ هذا الأمر يعود إلى صاحب الفلسفة الأولى أو العلم الإلهي[21] وفق تصور ابن سينا. أما موقف ابن رشد فهو يرى أن العلم الطبيعي يمكن أن ينظر بالإضافة إلى الموجودات المتغيرة يمكن أيضاً أنْ ينظر في الصورة والغاية  والفاعل بوجه ما[22]. ومن هذا يمكن رد الاختلاف بين التصورين السينوي والرشدي في مسألة علاقة العلم بالميتافيزيقا إلى مفهوم الطبيعية ذاتها. أعني بين المراهنة على الجواز والامكان وواجب الوجود وبين الدعوة إلى الضرورة والذاتية والعلية[23].ويتحقق هذا الاختلاف بصورة جلية في مفهوم الواحد؛ فالواحد ينتمي إلى علم العدد وعلم ما بعد الطبيعة فتأرجحه بين الحقلين دفع ابن سينا إلى القدف بالواحد خارج الوجود واعتباره زائداً على الوجود مما سيكرسُ نزعة انطولوجية عرضية يجعل الوجود يفتقر إلى مبدإ داخلي لذلك يحتاج إلى واهب الصور[24].وبالضد من ذلك، يضحي الواحد عند ابن رشد هو متنوع الدلالات والانحاء والتجليات إذ يمكن الحديث عن الوحدة الميتافيزيقية والوحدة العقلية والوحدة الطبيعية والوحدة البيولوجيةـ. فهو أي الواحد ملازم للوجود وقابل للقسمة ولا يوجد خارج الوجود، وهذا يدلُ على نزعة انطولوجية ذاتية[25].

وأما الفصل الثاني(براهين العلوم) فرصد المعايير الثلاثة المختلفة في العلوم أي بين طبيعة الموضوع ومنهجه البرهاني وبين قرب هذا العلم أو ذاك من الهيولى وما بين البساطة والتركيب التي يوسم بهها بعض هذه العلوم[26].وعلى هذا، يعتبر الباحث مزوز أنّ الخروج من مأزق هذا الاشكال لابد من استعمال المقاربة البرهانية التي تنظر في علاقة البراهين بالموضوعات. يقول:« لذا يبدو أن ها هنا طريقا واحداً وممكناً فقط يسمح لنا بفض النزاع وحسم الاشكال وهو ما يمكن أن ندعوه بـ”المقاربة البرهانية”»[27].وبهذا الاعتبار، ذهب ابن سينا إلى اعتبار أنّ الميتافيزيقا تعمل على تقديم البرهان المطلق لأنه يقدم سبب وجود الشيء وعليه يكون «الامتياز للميتافيزيقا على الفيزياء والرياضيات»[28].وأما ابن رشد فقد اعتبر أنّ مقدمات الميتافيزيقا هي مقدمات عامة وهي غير خاصة ولا مناسبة. ومن ثم، تكون الميتافيزيقا أو الصناعة الكلية هي اضعف العلوم من حيث وثاقة البراهين[29].وهكذا، ينظر علم ما بعد الطبيعة في الموجود بما هو موجود وفي اللواحق العامة دون أت يستعمل أي نوع من البراهين لأنّ« البرهان لا يقوم على الجواهر، بل على الأعراض الذاتية والموجود بما هو موجود ليست له اعراض ذاتية بل اعراضه عامة»[30].

الحصيلة من هذا كلِّه أنّ العلم هو غير الميتافيزيقا. فالعلم يتأسس على الكلية والذاتية والضرورة والمناسبة؛وأما الميتافيزيقا فمقدماتها عامة تشبه المقدمات المنطقية[31] وأما العلوم الحقة عند ابن رشد هي العلوم الجزئية فقط أعني الرياضيات والفيزياء[32]. لكن، أليس التمييز بين الأسباب الابستيمولوجية و الأسباب الأنطولوجية في فحص العلوم هو السر في منح الميتافيزيقا دورها الرئيس؟

لقد تصدى القسم الثالث (العلاقة بين الطبيعيات والإلهيات) للجواب عن هذا الاشكال في فصلين مهمين. جاء الفصل الأول(العلاقة الوجودية) لبيان العلاقة بين علمين الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة عن طريق مفهومي الجوهر والواحد. فلمكان العلم الطبيعي يفحص الجوهر المحسوس المتغير المتحرك،فإنّ ما بعد الطبيعة يفحص مبادئ الجوهر المحسوس وهو ما يخول له سمة الأولوية والأفضلية.في حين أن التصور الرشدي ينتقد هذا القسمة الجوهرية بين الجوهر السرمدي والجوهر المحسوس الكائن الفاسد باعتبار الواحد منهما موضع نظر علم الطبيعة والثاني موضع نظر علم ما بعد الطبيعة[33].ويبدو هذا الاختلاف بين ابن سينا وابن رشد في علاقة العلم الأدنى بالعلم الأعلى واضحاً في مفهوم الواحد، فهذا الأخير عند الشيخ الرئيس هو السبب الفاعل من خارج[34] بل الأكثر من ذلك شرع ابن سينا في تفسير عملية الايجاد العالم عن طريق عملية الصدور والفيض، وهي النظرية التي تعرض لها ابن رشد بالنقد الحاسم والقوي. فنحول الواحد السينوي إلى جور هو الذي يجعل ابن رشد ينبه الى الخلط بين المقولات العرضية والجوهر.انه صراع بين رؤيتين متضادين ما بين رؤية سينوية ترى أنّ الواحد لا ينقسم وهو خارج الموجودات المحسوسة ورؤية رشدية تتطلع إلى منح الوجود أفعاله وخصائصه المقومة والذاتية  على أساس أن الواحد هو قابل للقسمة بين أواع الموجودات[35]. وعلى مستوى الأيديولوجيا يمكن القول إنّ موقف ابن سينا يمثلُ النزعة العرفانية –الغنوصية اللاعقلانية،وموقف ابن رشد يمثلُ البعد العقلاني العلمي[36].فأمام هذا الانشقاق الأيديولوجي والمذهبي يدعو الباحث إلى «تغيير الرؤى والغيبية وتعويضها برؤى علمية سيؤدي بالضرورة إلى تغيير في العقيدة والسياسة»[37].

جاء الفصل الثاني(العلاقة المنطقية) لبيان التمييز بين الأسباب الايبستمولوجية والأسباب الأنطولوجية،فهذا التمييز هو الحل لالتباس في نقل البرهان من علم إلى علم آخر، وتجذير فكرة التعاون والاستقلالية بين العلوم الجزئية والعلوم الكلية. إذ قدم لنا فيلسوف قرطبة ومراكش مفهوم جهة النظر باعتباره يجعل موضوعات العلوم«مستقلة عن بعضها البعض،وهكذا تتباين العلوم ولا تشترك أبداً في النظر إلى الموضوع نفسه من الجهة نفسها،ومن ثم يستحيل نقل البرهان من موضوع إلى موضوع آخر»[38] ومن ثمة، فكل«علم يستخدم نوعا من البرهان وبما أنّ البرهان يبدأ بمقدمات خاصة وينتهي الى نتائج خاصة،فمن المستحيل أن يستعمل علمان أو أكثر المقدمة نفسها»[39]. في حين أن ابن سينا يرى أنّ البرهان يمكن أن يتجول بين الحقول المعرفية دون رادع،لأن العلم الأعلى هو العلم القادر على تقديم العلة لموضوع العلم الأدنى. يقول المؤلف في هذا المعرض:«الأصول الموضوعة لا يمكن بيانها في العلم الطبيعي لأنها عبارة عن مبادئ ،ومبادئ الموجودات من اختصاص الميتافيزيقا،لأنّ النظر الميتافيزيقي خاص بالجواهر المطلقة أي المبادئ الكلية والعامة»[40].

إنَّ قلب ابن رشد للعلاقة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة قد اسهم أيما اسهام في بيان أنّ الفلسفة الأولى إنما تعطي أسباب موضوعات الصنائع كلّها من حيث هي أحد موجودات لا من حيث هي موضوعات الصنائع[41] وهذا يعني ايضا أن هذا العلم الإلهي لا ينظر في «اسباب موضوعات العلوم من حيث هي حدود وسطى في علوم معينة»[42]. ويتحصل عن هذا أنّ رفع الخلط بين النظر الابستيمولوجي والنظر الأنطولوجي في فحص العلاقة بين العلم الأدنى والعلم الأعلى إنما يؤدي إلى منح الفلسفة الأولى منزلتها ودورها الأصيل.

لم تكن خاتمة هذا الكتاب استذكارا واستحضارا لما سبق قوله في جدل العلم والميتافيزيقا بين ابن سينا وابن رشد بقدر ما كانتْ لحظة استشراف أو لنقل فتح امكانية من امكانيات التفكير في نصوص الفيلسوفين الكبيرين الشيخ الرئيس والشارح الأكبر اللذان اعتبرهما الباحث محمد مزوز قد حددا مصير الثقافة العربية الاسلامية،خط يراهن على الغيبيات والذوق والعرفان وخط يروم بناء المعرفة العلمية وشروطها. ولعل هذا ما دفع المؤلف إلى الفلسفتين على غرار التصنيف الفقهي والأصولي حيث اعتبر فلسفة الأصول يمثلها ابن رشد وفلسفة الفروع رائدها ابن سينا؛ « وبين الأصل والفرع بعد منطقي وشرعي. إذ لا يجوز نقض الأصل بالفرع»[43].

ويبقى أنْ نقول في نهاية هذا الكتاب أنَّ التمييز بين الأسباب الاييسيمولوجية والأسباب الأنطولوجية قد منح للميتافيزيقا دورها الرئيس ضمن تصنيف العلوم. إذ لو أحذنا هذا القول بإطلاق وعلى جهة العموم لظهر لنا أنه لا فرق بين مذهب ابن سينا ومذهب ابن رشد لا سيما حينما تحظى هذه الميتافيزيقا أو العلم الإلهي بالمنزلة الشرفية. بيد أن الباحث مزوز يجعل من الأيديولوجيا مدخلاً مهماً لمحاولة قراءة الفوارق بين عقلانية أبي الوليد ولا عقلانية الشيخ الرئيس بالرغم من أن لهذه النقطة أهمية كبيرة فأنها، في اعتقادي، قد تضع تاريخ الفلسفة من حيث هو تاريخ الأيديولوجيات. وهذا الأمر كما يعلم الجميع يتعلق باختيارات في فالقراءة والفهم والتأويل؛ ما اود قولنا أن انتصار ابن رشد لاستقلالية العلم الطبيعي وخصوصيته وقوله إلى حد ما جدلية القول الميتافيزيقي لا يعني حذفه للميتافيزيقا، بالمعنى الوضعاني كما نفهمه اليوم، بل إنّ نظر ما بعد الطبيعية قد يسهم أكثر من العلم الطبيعي في بيان المسائل المشككة والعويصة. ولعل استعمال الجدل في العلم الطبيعي الناظر في المطلوب هو أقل متانة من الناحية المنهجية والتعليمية من استعمال الجدل في ما بعد الطبيعة[44].

أما النقطة الثانية التي أود أيضاً الإلماح لها، فهي تتعلق بسؤال الحاضر. لقد ورد في بعض مواضع الكتاب انفتاحات قوية واشارات دالة على مدى علاقة الخوض في الجدل في علاقة الطبيعيات والالهيات بما يجري في أمور العلم والمعرفة والاعتقاد. يقول المؤلف: «لم تكن دلالة العلم والميتافيزيقا عند القدماء تحمل المعنى نفسه الذي نفهمه اليوم، أي علاقة التناقض بين العلم من جهة والميتافيزيقا من جهة أخرى»[45]،وهذا إنما تدلُ على رغبة الباحث العارمة في محاول انجاز مقارنات معتبرة بين مفهوم العلم  في الفكر العربي الاسلامي وفي الفكر الحديث والمعاصر؛ لكنها بقيتْ تصريحات محتشمة ومحدودة.

وبكلمة جامعة، أقول إن هذا الكتاب قد أعاد فتح نافدة من البحث الفلسفي في علاقة العلم الالهي بالعلم الطبيعي عند الفلاسفة المسلمين في وقت توهم الكثيرون بأنّها أغلقتْ إلى الأبد. والحال أن قراءة نصوص الفلسفة الاسلامية العربية القديمة والكلاسيكية إنما تحتاج لمزيد من  النظر  والتدارس أكثر من أيّ وقت مضى.


[1]-محمد مزوز، العلم والميتافيزيقا بين ابن رشد وابن سينا(رسالة الدبلوم الدراسات العليا)، المشرف محمد عابد الجابري، سنة 17/05/1991.

[2] – محمد مزوز، مشكلة الوجود بين ابن رشد وأرسطو، الرباط: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية.رقم:71 ،سنة الطبع 2014.

[3]-محمد مزوز، من أجل انطولوجيا إسلامية مساهمة في تحديد الوعي الإسلامي (الدار البيضاء: منشورات الملتقى، مطبعة النجاح، الطبعة الثانية 2001).

[4]-«وتصنيفُ العلوم بها المعنى لا يعني ترتيبها فقط بل يدلُ التصنيف على موقف بكامله أي على رؤي فلسفية»ـص10:محمد مزوز، جدل الطبيعيات والالهيات بين ابن سينا وابن رشد، بيروت: مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى 2017،ص10.

 [5]-محمد مزوز، جدل الطبيعيات والالهيات بين ابن سينا وابن رشد، بيروت: مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى 2017،ص10.

[6]-المرجع ذاته،صص11-10.

-المرجع ذاته، – ص15.[7]

[8]-المرجع ذاته،صص36-35.

-المرجع ذانه،ص37.[9]

[10]-المرجع ذاته،ص38.

[11]-المرجع ذاته،ص21.

– يقفُ الباحث مزوز على نوعين من العلاقة مع الواحد. النوع الأولى علاقة الإنفصال في علم الكلام.يقول:«هكذا وصل علم الكلام إلى مآزق نظري لم يستطع تجاوزه.وذلك نتيجة دفاعه عن علاقة الانفصال في أقصى حالاتها بمعتى أن المتكلم كان مشتغلا بضرورة فصل الله عن العالم و اقصاء امكانية الاختلاط أو الاشتراك»،المرجع ذاته، ص32. أما النوع الثاني فهو علاقة الاتصال عند أهل التصوف.يقول « هذا المآزق النظري هو الذي أراد أن يتجنبه المتصوف وقرر أن يتبني :العلم” عللا علاقة مضادة تماماً لعلم الكلام أعني علاقة الاتصال»،المرجع ذاته،ص32.  

-قارن: محمد مزوز، من أجل انطولوجيا إسلامية مساهمة في تحديد الوعي الإسلامي (الدار البيضاء: منشورات الملتقى، مطبعة النجاح، الطبعة الثانية 2001)،

-المرجع ذاته،ص34.[12]

-المرجع ذاته،ص41.[13]

[14]-المرجع ذاته،صص.65-64-59-58-47-46-45

-المرجع ذاته،ص59.[15]

-المرجع ذاته،ص61.[16]

[17]-المرجع ذاته،ص75. قارن مقالة الألف الصغرى من تفسير ما بعد الطبيعة ،بيروت :تحقيق موريس بويج،ج،صص44-43.

-المرجع ذاته،ص78. القسمة السينوية لواجب الوجود وممكن بذاته وواجب بغيرة هي قسمة غير برهانية ، وبالتالي هي خروج عن الأصول الأرسطية . المرجع ذاته،صص77-76.[18]

[19]-« وهذا الاختلاف بين الطرق الطبيعية والطرق الإلهية،وهو الذي يوضح لنا أنّ ابن رشد وابن سينا يسيران على خطين متوازيين. إنّ هذين الطريقين يعكسان تصورين متضادين في تفسير الكون، كما يعكسان موقفين متضادين في تفسير المجتمع»، المرجع ذاته أعلاه،ص88.

[20]-المرجع ذانه،ص98.

«ان تصنيف العلوم عند ابن سينا وابن رشد ليس مجرد احصاء للعلوم بل هي تأسيس هذه العلوم على قاعدة ما وبحث عن علاقة الأولوية بينها. كما أنّ التصنيف يعني ها هنا، تقعيد العلوم بعضها على بعض ومن ثم محاولة اعادة بناء الثقافة العربية الإسلامية من منظور فلسفي ينحو إلى هذا الاتجاه أو ذلك»، المرجع ذاته،ص107.

[21]-المرجع ذاته،صص108-107.

[22]-المرجع ذاته،ص109.

[23]-«يعطينا فهما آخرا يتلخص في النظر إلى “العلاقة” بين الجزئيات ما دامتْ تلك العلاقة العلية ضرورية وثابتةـ لا يعقل جوازها أو امكانها»، المرجع ذاته أعلاه،ص111.

[24]-المرجع ذاته،ص129.

[25]– «يجب أن نميز في طبيعة الواحد بين أمرين: أحدهما الواحد العددي وهو من طبيعة كمية وثانيهما الواحد الذي نطلقه على الوجود»،ص131.قارن أيضاً: الفهم المتواطئ للواحد عند ابن سينا،ص140.

-المرجع ذاته،ص155-156[26]

-المرجع ذاته،ص156.[27]

[28]-المرجع ذاته،صص159-160.

-المرجع ذانه،ص163.[29]

[30]-المرجع ذانه،ص166.

-« الميتافيزيقا لا يستعمل إلا البراهين المنطقية أي المقدمات العامة التي ليست مناسبة ولا خاصة»،ص169.

«مبادئ الموجودات والمبادئ لا تبرهن لأنها إما مسلمات أو مصادرات أو اصول موضوعة»،ص166.

[31]-المرجع ذاته،ص166.

[32]-المرجع ذاته،ص166.

[33]-المرجع ذاته،صص184-183.

[34]-المرجع ذاته،ص187.

[35]-المرجع ذاته، ص196.لمزيد من التفاصيل حول نقد ابن رشد للجوهر الكلي ونظرية العدد والمثل،صص 194-193.

[36]المرجع ذاته،صص203-202.

[37]-المرجع ذاته، ص204.

[38]-المرجع ذاته، ص209.

[39]-المرجع ذاته، ص212.

[40]-المرجع ذاته، ص218.

[41]-قول ابن رشد نقلا عن ص230.المرجع ذاته أعلاه

-المرجع ذاته،صص232-231.[42]

«إنّ الفيلسوف الأول لا يملك من القوة المعرفية ما يمكنه من النظر في هذه الأسباب الأربعة باعتبارها حدوداً وسطى من قياس برهاني لهذا يكتفي بالنظر فيها من زاوية الشمول والعموم. بينما ينظر العالم الرياضي أو الفزيائي في هذه الأسباب من زاوية خاصة، إما بصناعة العلم الطبيعي وإما بصناعة علم التعاليم»، المرجع ذاته،ص232.

[43]-المرجع ذاته،ص257.

[44]-يقول ابن رشد :« لكنه في العلم الطببعي رأى أنّ الأفضل في التعليم أن يروم الفحص الجدلي في مطلوب مطلوب الواحد أما في هذا الكتاب[ما بعد الطبيعة] فرأى أن يقدم الأقاويل الجدلية في جميع المطالب العويصة التي هي هذه الصناعة ويفرد القول فيها على حدة ثم يأتي بالبراهين التي تخص مطلوباً مطلوباً في الموضع اللائق به من مقالات هذا العلم .ولعل الذي رأى من ذلك في هذا العلم هو الأفضل في التعليم في هذا العلم»، أبو الوليد بن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، تحقيق موريس بويج ( بيروت: دار المشرق، الطبعة الثانية 1967)،ص167.

[45]-المرجع ذاته،ص9.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق