المقالات

فلسطين الميزان وصراع الأخلاق والقيم(فؤاد هراجة)

تنوعت عبر الأزمان والعصور النظريات المفسرة لحركة التاريخ والتحولات الحضارية، فمنها من أوعز أصحابها هذه التحولات إلى تطور وسائل الإنتاج وانتقال المجتمعات من الصيد والزراعة إلى مجتمعات الصناعة ومن تم إلى المجتمع الرأسمالي المعولم، ومنها من اعتبر أصحابها أن الصراع حول السلطة كان على الدوام محركا لكل التغيرات الطارئة، في حين أقر آخرون أن الاقتصاد والصراع الطبقي كان ولا يزال قطب رحى الصراع ونقطة انطلاق أي مشروع تغييري في الماضي والحاضر والمستقبل.
قد لا نختلف أن كل هذه المعطيات مجتمعة شكلت ديناميات للتغيير، وكانت بمثابة الطاقة الفاعلة فيه، لكن ما لا ينتبه إليه معظم فقهاء السياسة والاقتصاد والتاريخ والاجتماع وغيرهم من المهتمين بالإنسان وبحركة التاريخ أن كل عوامل الصراع المذكورة التي أطاحت بحضارات وإمبراطوريات ودول وأنظمة سياسية، تقبع في جوهرها قيم وأخلاق طرحت نفسها بديلة لما هو سائد؛ قيم تعد المجتمع بعدالة أفضل، كما تعد الإنسان بكرامة وحرية أوسع، ما يدفع إلى انتشار مكارم الأخلاق والفضيلة بين الناس. لطالما سمعنا أن سقوط الحضارات كان سببه انهيار الأخلاق واختلال موازين القيم، لكن معظمها كان لا يحمل ذلك محمل جد بقدرما كان يعتبره ترفا زائدا في التحليل. بَيْدَ أن العدوان الأخير على غزة الذي خلف لحد الساعة ما يزيد عن 14500 شهيد و30 ألف جريح ومئات المفقودين تحت الأنقاض، وتدمير آلاف المساكن، واستهداف المستشفيات والمدارس والمخابز وخزانات المياه والمناطق الآهلة بالسكان، وإرغام الناس على الهجرة القسرية والنزوح، وحرمان الناس من الماء والكهرباء والطعام والدواء، وتخييرهم بين الموت جوعا أو الموت تحت القصف الذي وصل 50 ألف طن من المتفجرات، أمام مرأى ومسمع العالم “المتحضر”، وتحت أعين المنتظم الدولي بمواثيقه وعهوده ومحاكمه الدولية، طيلة 48 يوم متتالية، مع تمتيع المجرم أي الكيان الصهيوني بكامل الحق في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وتحميل الضحية أي الشعب الفلسطيني كامل المسؤولية فيما يقع عليه من جرائم الحرب، كل هذه المعايير المزدوجة جعلت ثقة الشعوب في كل ربوع العالم تتزعزع حُيال القيم التي رفعها العالم الغربي بعد الحرب العالميه الثانيه وبعد نشأة هيئة الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومحكمة روما ومحكمة لاهاي.
لقد كشف العدوان على غزة زيف القيم الغربية المرفوعة لا من حيث مضمونها، وإنما من حيث الإنسان الذي تقصده، فبمقارنة بسيطة بين الحرب على أوكرانيا والعدوان على غزة يتبين لكل ذي عقل أن الغرب منافق ويكيل بمكاييل وليس بمكيالين. ناهيك عن الحرب الإعلامية التي يشنها ذات الغرب بحكوماته المتصهينة على الشعب الفلسطيني و المقاومة من خلال محاولاته اليائسة نعتهما بالإرهاب والداعشية والوحشية، وابني السرديات الصهيونية التي تزعم أن المقاومة لا تهدد فقط وجود الكيان اللقيط، بل تهدد الحضارة الإنسانية بأكملها.

إن 48 يوما من العدوان على غزة بكل ما حمله من دمار وإبادة للإنسان وتجويع لشعب محاصر، جعلت الضمير الأخلاقي للعالم يستيقظ ويسترجع 75 سنة من معاناة الشعب الفلسطيني الصامد وما لقيه من نكبات في سبيل تشبته بوطنه وإصراره على تقرير مصيره. وما سيزيد الصورة جلاء العملية الأولى لإطلاق سراح الأسيرات لدى حماس، ثم العملية الثانية لتبادل الأسرى؛ والشهادات الناصعة للأسيرات حول حسن معاملة كتائ..ب الق..س.ام لهم، وكذلك صور الأسرى الأطفال والنساء الذين يودعون جنود القس..ا.م ابتسامات عريضة وهم يلوحون بأيديهم مودعين من أَسَرَهم بحرارة لأنه أحسن مثواهم وحفظهم من قصف جيشهم الغاضب.

لقد تابع العالم هذه المشاهد الأخلاقية المبهرة حيث يحمل القس…ا.مي عجوزا أسيرة بين يديه ويضعها في سيارة الصليب الأحمر؛ قلت مبهرة إذ كيف لمن تعرض لكل أنواع التنكيل أن يحتفظ بهذا المخزون الأخلاقي إلا إذا كان متأصلا فيه وعقيدة راسخة في قلبه لا يزحزحها شنآن ولا قساوة العدو. في المقابل شاهد العالم عنجهية المحتل الصهيوني وتعامله الصلف مع الأسيرات والأطفال، وأشكال التعذيب النفسي الذي مارسه عليهم قبل الإفراح عنهم، وكيف منع أهليهم من الفرح بخروجهم، واقتحم البيوت المستقبلة بجيشه وأخرج الأقارب منها واحتحز حتى الحلويات في مشهد جنوني ينم على الذهنية الحقودة التي تستحكم سلوكه وأخلاقه المنحطة. ومع كل هذه المفارقة في المنظومة القيمية والأخلاقية بين الشعب الفلسطيني والمحتل الصهيوني، ظلت الزعامات الغربية تبدي أقصى سعادتها بالإفراج عن الأسرى الصهاينة، في حين لم يحركوا بنت شفة في حق المُفرَجِ عنهم من الأسيرات والأطفال الفلسطينيين، وهو ما يؤكد بما لا يدع شك الذهنية العنصرية النافذة في اللاوعي لدى حكام الغرب الصهيوني.

إن الأحداث الجارية في غزة والمواقف المخزية المُثْبَتة في حق المنتظم الدولي الذي انسلخ من كل القوانين الدولية، والمعاهدات والمواثيق الأممية، والقيم الإنسانية، كانت بمثابة الصدمة الأخلاقية التي انصعقت بها معظم شعوب العالم وعلى رأسها شعوب الدول الغربية، التي شكلت لها هذه الصعقة يقظة أخلاقية جماعية دفعت بالملايين للخروج إلى الشوارع استنكارا لانحياز حكوماتهم لكيان إجرامي يحترف القتل والتعذيب والتجويع وكل أشكال إقبار الإنسانية. إننا أمام منعطف تاريخي جديد يعلن موت منظومة القيم الصهيونية اللبرالية الاستكبارية، ويأذن بانبثاق وعودة أخلاق الفطرة التي لا زالت شعوب العالم الثالث تكتنزها، أخلاق لطالما حاربها الغرب من خلال محاربته الوعاء الذي يحملها تمثال في الدين والأعراف العريقة.

وبناء على ما سبق يتبين أن أفول الحضارة الغربية لن يكون من خلال سقوطها الاقتصادي، ولا من خلال إفلاسها السياسي، وإنما من خلال أزمة الثقة في المنظومة القيمية التي سيعاني منها المجتمع الغربي، ما يجعله يسأم الفراغ ويبدأ برحلة البحث عن منظومة أخلاقية تجمع بين الشعار والممارسة والتعميم، ولا تميز بين إنسان وإنسان، بل تؤمن أن الكرامة والحرية والمساواة مبادئ كلية لا تتجزأ، ولعل هذا النموذج المرتقب أخذ العالم يتلمس معالمه في الشعب الفلسطيني الذي رغم ما يمر به من إبادة وتدمير، يرى العالم رباطة جأشه وصلابة إرادته وعمق إيمانه وأصالة أخلاقه،ما يدفع الإنسان الغربي إلى التساؤل: ما الذي يجعل شخصا فَقَدَ كل أفراد أسرته أن يتقبل ذلك برضى وصبر دون أن ينهار نفسيا أو يحتاج إلى مصاحبة طبية نفسية؟ سؤال سيقود حتما شعوبا تَئِنُّ تحت وطأة أزمتها القيمية إلى البحث عن خلاص وملاذ أخلاقي جديد، تكون بدايته إسقاط قيم الاستهلاك الاقتصادية المتلفعة بثوب الرفاه، وقيم الإستبداد المتسترة برداء الديمقراطية، ثم القيم الفردانية المتدثرة بالحرية، في استشراف أفق مجتمع العمران الأخوي والمؤتلف الإنساني الذي تنتظره الإنسانية بشوق كبير. لنستخلص أن كل دورة تاريخية رهينة بحسم الصراع مع القيم المعيشة وفتح أفق جديد مع منظومة أخلاقية بديلة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق