المقالات

عبد الكبير الخطيبي: المثقف الممتنع عن التصنيف(عبد السلام ديرار)_3_

المحطات النضالية البارزة في مسيرة الخطيبي:

    نشير في البداية إلى أن تمييزنا في مسيرة الرجل بين نضاله المعرفي، و نضاله بالمعنى الضيق الشائع (و هو مغلوط) (أي السياسي و ما شابهه)، هو تمييز إجرائي ليس إلاّ، و إلا فرهاناتهما واحدة (إصلاح حالنا)، و حجم المكابدة فيهما واحدة، و الروح الرافضة المتمردة فيهما واحدة…لا بل إنهما يتقاطعان و يتداخلان كما سنفصل ذلك. فالشاب عبد الكبير، ما أن وصل إلى باريس في بداية الستينات لمتابعة دراسته بشعبة الفلسفة، حتى التحق بالحركة الشيوعية المغربية للطلبة الملتفّين حول الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ( المنظمة الطلابية العتيدة آنذاك و التي كانت فاعلا أساسيا في المشهد السياسي المغربي)، و شرع يكتب في جريدة ” المكافح” ، و هي صحيفة أسبوعية مكتوبة باللغة العربية، كان يصدرها الحزب الشيوعي المغربي خلال الستينات. و بعد عودته  للمغرب سنة 1964، وتعينه أستاذا بجامعة محمد الخامس بالرباط، سيصبح رئيسا أو مديرا لمعهد السوسيولوجيا (الشهير) بالرباط، ذلك المعهد الذي كان يحمل ” وعودا” تنموية و تحريرية للمغاربة، لأن البحث السوسيولوجي أصلا، كان مرادفا لفعل سياسي، فعل يراهن على تحرير الخطاب السوسيولوجي حول المجتمع المغربي من النزعة الاستعمارية (للسوسيولوجيا الاستعمارية) و من التمركز العرقي حول الذات (الاستعمارية) عبر تحرير الجهاز المفاهيمي الاستعماري  بتفكيكه، من جهة، و نقد وتفكيك المعرفة و الخطابات التي أنتج المغاربة عن أنفسهم. ثم البناء العلمي لظواهر المجتمع المغربي لمعرفة “منطق” اشتغالها. و هي الخطوة الضرورية لتغييرها و التحكم

في مسارها. و هو عمل نضالي جبار و  طموح و عميق  لا يضاهيه  أي  فعل  سياسي بالمعنى الضيق و “العاري” للفعل السياسي، بل إن هذا الأخير يبقى بدون بوصلة ،إن هو لم يتسلح بالأول، وهي واحدة من النقط العمياء في العمل السياسي بالمغرب  اليوم، و من

فداحتها كون المعنيين بها باتوا بحساسية مفرطة مرضية تجاه كل إثارة للحديث عنها.

إنها بنية البحث العلمي الأولى في مغرب خارج للتو من المرحلة الاستعمارية المباشرة، أحدثها الراحل إلى جانب آخر كبير هو بول باسكون، و التي سماها الأخير ب “سوسيولوجية الفعل”(Sociologie de l’action ). وأي نضال أجدى و أنفع   من  هذا

الذي ينير الطريق، و يكشف شعاب “ساحة الوغى” ! و يحدد متى يلزم “القصف” و إلى أين يوجه، و كيف يوجه بدقة !. و لذلك تظل أطياف أفكار الخطيبي(و باسكون) حاضرة، و بكل راهنيتها، خصوصا في زمننا (المستعار) الحاضر، حيث باتت “الأحزاب السياسية” (بعد أن غادرها معظم المشتغلين بالرمزي) حكرا على حفظة الشعارات الطقوسية الميتة، و الظواهر الصوتية…، كالذي فقد البصر و البصيرة معا.مما سهل سوقها إلى حتفها و العبث بها من طرف من لا ينكر إلا جاهل، كونه يستند إلى زاد ثقيل من المعرفة، موظفة تنكيلية بلغة الراحل إدوارد سعيد.

  و لم يكن غريبا أن تسارع السلطة (أو بالأحرى السلطان)(Le pouvoir) إلى لإغلاق معهد السوسيولوجيا عام 1969، أي بعد مدة وجيزة من إحداثه، و هي التي كانت شديدة التوجّس منه، نتيجة تأثيره على الطلبة( 33) الذين كانوا -بالمطلق- ضد النظام. و كان الإغلاق مباشرة، بعد الأحداث الطلابية الشهيرة بفرنسا عام 1968، و التي تخطى حجمها فرنسا إلى باقي أوربا، بل و ما وراء البحر، حتى أن الكثير من المعنيين بها خالوها نهاية النظام الرأسمالي ! و انتصار النموذج الاشتراكي على الكرة الأرضية !! ، فالزمن كان زمن اليوتوبيات! التي لم تكن تخلو  من واقعية  (34).  فالشعوب  بأمريكا اللاتينية و آسيا و افريقيا ، التي كانت طردت الغزاة، كانت في حيوية مدهشة، ربما بفعل نشوة الانتصار على الاستعمار المباشر، و كثير منها يتخلص من حكام عملاء، و يلتحق بالمعسكر الاشتراكي و هو في حال امتداد، قبل أن يتم الإجهاز عليه، أو أن يتفكك تحت تأثير عوامل داخلية، أو بهما معا، و هو التحليل الأقرب إلى الصواب.

  و في نفس السنة (المشؤومة) التي تم فيها إغلاق معهد السوسيولوجيا (1969)، غادر الخطيبي الحزب الشيوعي المغربي، و هي خطوة جريئة، و كانت تحمل الكثير من المخاطر !، عكس ما قد يعتقده الكثيرون، خصوصا حين نقرأها في سياقها. و أخذا بعين الاعتبار ما انكشف – بعد سنين طويلة من تلك الخطوة- مما كان يشتغل في الخفاء في هذا التنظيم (وفي غيره)، و ما آل إليه حال مشاريع مثقفين حقيقيين، ممن لم يخاطروا بالانسحاب (35). وهل كان يليق بصاحب “النقد المزدوج” و “الفكر المغاير” و السخرية على طريقة جويس، حيث تتضافر المتعة التي تطبع النص، مع ارتعاشة الممكن التي تهزّ القارئ، و رقصة الكلمات و الأساطير، لتفتح صدر القارئ على حرية مفرطة (36)، و حيث لا مجال ل”العقيدة و الفكر الوثوقي” و حيث “الخلخلة و التقويض”…، هل كان يليق به أن يتعايش مع التحجر و الدوغمائية و الارتهان وضيق الأفق…؟! أو ضمن ما سيسميه لاحقا ب”الأحزاب المساعدة” (Les partis auxiliaires) !. و مما له الكثير من الدلالات في هذا السياق، كون الخطيبي، حافظ على صداقات متينة جد عميقة، مع عدد ممن اشتغل معهم ضمن الحزب الشيوعي، فعلاقته بالراحل عزيز بلال مثلا، ظلت على أعلى مستويات العلاقات الانسانية، و ما قاله في حقه – بعد رحيله المفجع-و في أكثر من مناسبة، تجسيد فعلي لما سماه الخطيبي ب “التحاب” (L’aimance). و لم تكن مغادرة عبد الكريم الخطيبي للحزب الشيوعي، انسحابا من الحياة السياسية، إلا بالنسبة لمن يتمثل الفعل السياسي مختزلا و مرادفا لحمل “بطاقة حزب”، فها هو ينطلق – مع الآخرين – لتأسيس النقابة الوطنية للتعليم العالي، ثم مديرا للمجلة الشهيرة “Le Bulletin économique et sociologique du Maroc ” ، و التي تحولت انطلاقا من 1987 إلى “Signes du présent” ، و من يعرف هذه المجلة، بعمق، بكل تاريخها الطويل و عمق القضايا التي كانت تخوض فيها، و الروح الجادة التي ظلت تسكن الساهرين عليها، يدرك أنها إلى جانب كونها شكلت مدرسة حقيقية لأجيال في العمل العلمي، في تخصصات متعددة، تصب كلها في البناء العلمي لبنيات المجتمع المغربي الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية…، كانت أيضا، مدرسة “سياسية” ( كما الحال بالنسبة لكل أعمال المعهد الجامعي للبحث العلمي الذي أداره لمدة تزيد عن عقدين)، ف”السياسي” في صلب “الثقافي” و”الاقتصادي” في عمق ” السياسي”… و “الرمزي” بوصلة “السياسي” و الحرمان منه يجعل “السياسي” أعمى !. ذلك ما أشار إليه الخطيبي بكل وضوح في أحد كتيه، بقوله: “منذ نهاية دراساتي بباريس (في 1964) أعيش و أعمل بالمغرب…، و قد التحقت بالجامعة منذ عودتي كباحث و أستاذ، و شاركت كما أفعل الآن في النشاطات السياسية المباشرة. الانزياح عن الاهتياج هو طريقة عملي، ولكن من غير أن ننسى أني واحد من المؤسسين للنقابة الوطنية للتعليم . لقد كانت تلك فترة كنت أبحث فيها عن ذاتي، فكل مجالات المجتمع المغربي كانت تهمني” (37). إنه الخطيبي،المفكر و المثقف العالم و الأديب، المصلح الكبير الذي راهن على إصلاح “الجذور” لا “القشور” ، لأنه تكشّفنا له و “عرّانا”، مغربا عجيبا في طريقه إلى الاضمحلال، و ذاكرته كادت تدخل طي النسيان و اللامبالاة… دون أن يعني ذلك أي حنين إلى بعث ما هو عتيق… بل رسم مغرب كأفق للتفكير، و النظر إليه كمنبع يفيض فنا و روعة، أي جعله في مستوى الوجود في حقيقته (38). وما ” وجودنا في حقيقته” غير ذلك الذي يستنهض هممنا للمضي نحو بنائه من جديد عبر تفكيك مزدوج لخطاب الغرب (الغارق في تمركزه حول ذاته) حولنا، و ل “ميتافيزيقانا” أو تراثنا، و تكسير قيود “فخ الهوية” التي تعوق كل تقدم لنا، و تفجير مكبوتاتنا و مقموعاتنا، و عدم الخوف ( أو بالأحرى الوقوع في فخّ ) من الثنائية اللغوية ( و حتى التعدد )، بل  الانخراط  في

“الروابي” الخصبة للعلاقات بين اللغات، و الثقافات و المخيالات، والتسلح بقيم الالتزام وعدم تغيير اللون كالحرباء، و التسامح، و عشق الشعر ! و “اليوتوبيا ” و الانسانية… و هو ما كرّس له حياته، مثقفا جديرا بلقبه، مدركا بكل عمق لرسالته المتمثلة في الوظيفة البيداغوجية و التقنية من خلال التحفيز على مسائل الفكر و الفن، و ذلك بأن منح نفسه كنموذج. و الوظيفة الاجتماعية المتمثلة في إيقاد الفكر لأن يكون ذكيا و ذو حساسية، ولكنه من الناذر أن يجعل من ذلك مهنته الدائمة. ثم الوظيفة الإيتيقية، بأن يكون ملزما أن يتكيّف و باستمرار مع المبادئ و القيم التي يدافع عنها (39).

  و الخطيبي خلّد اسمه من الوجوه البارزة الناذرة للأنتلجنسيا المغربية التي لا انقطاع بين ما تقوله و تكتبه، وما تحياه، أديبا لامعا ب “عالمه الخاص” الذي قاتل من أجل صيانته، و التضحية بكل ما من شأنه أن يمس به أو يوجّهه أو يحرفه مهما كان إغراءه، أو الآلام المترتبة عن الانصراف عنه… لا مجال عنده للانتصار لقيمة في “العالم الخاص” و لنقيضها في ” العمل الإبداعي” ، لمواقف حادة و مغالية في جرأة البطل في الرواية، و التزامه و نضاليته ، و انتهازية و ” براغماتية ” و جبن في  الواقع. و فيلسوفا      بالمعنى الأكثر تقدما للفلسفة (لا بالمعاني المبتذلة و المخدومة السائدة في سياقنا و المنجمن أصحابها)،  ضربا شديد التوجيه بمطرقة  دقيقة  على الوقائع و الأحداث حولنا، لتمكيننا من “سماع” ما لم نكن مؤهلين لسماعه، و ما كان يراد لنا عدم سماعه، من رنّاتها و تقاسيمها، لعلّنا نفزع من حالها (و حالنا)، فننهض بعد طول سبات و هوان. ثم عالما للوظائف و العلاقات، مبرزا للتنوعات والاختلافات، بانيا للصلات و التقاطعات و التفاعلات، ضمن التزام أخلاقي رفيع بقضايا مجتمعه أولا، و بالقضايا الانسانية ككل ثانيا. و لكل ذلك استحق الخلود. لروحه انحـنـاءات .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق