المقالات

رؤية فلسفية حول الثابت والمتغيير(قاسم خضير عباس)

إنَّ الإسلام عندما وضع منطقة الفراغ التشريعي -وهي منطقة تخلو في أحكامها من نصوص تشريعية خاصة بها لكنها تستند إلى مبادئ أصولية عامة ثابتة- أكد بشدة على ضرورة تطبيق المبادئ الأصولية الثابتة وعدم المساس بها، وأكد كذلك على تثبيت الأخلاق والقيم في نفوس الناس وضمائرهم، لأنها تعطي الفرد والمجتمع مصداقية وقوة. 

فلا شيء آخر يبرر السلوك السيئ، وبضمنه الجشع المادي والاستغلال والانحراف الاجتماعي، بحجة تغيير الأصول والثوابت لأنَّ ذلك يؤدي إلى خراب الفرد والمجتمع. وهذه قاعدة عقلية ومنطقية لابد من إدراكها في مواجهة من يريد تغيير القيم العليا وإحلال قيم الغرب محلها!! بحجة أنَّ: الأخلاق نسبية وغير ثابتة.

فهؤلاء المتغربون فكرياً أرادوا من خلال ذلك تبرير (أخلاقيات الاقتصاد الغربي)، التي أدخلت إلى مجتمعاتنا لامتصاص حقوق الكادحين وتعبهم، وزيادة أرباح المترفين دون أي ضمير أو إحساس بآلام الناس.

بلحاظ أنَّ القواعد العامة للأخلاق ثابتة لا تتغير، فالكذب هو الكذب، والصدق هو الصدق، والخيانة لا يمكن لها أن تلبس لباس الطهر والعفة في كل زمان ومكان. وهذه الحقيقة الإنسانية، التي هي في صميم وجوهر كل إنسان، جعلت بعض المفكرين العرب يعيدون حساباتهم بشأن الأخلاق والتراث، كـ(زكي نجيب محمود)، الذي اتجه في آخر حياته إلى دراسة الإسلام، وأعلن في كتابه (عربي بين ثقافتين) أنَّ: أحكامه السابقة وقناعاته كانت من اندفاعات الشباب!! 

والمعروف أنَّ كثيراً من المفكرين العرب يحاولون اليوم تغيير أساليبهم الفكرية القديمة، بعد أن فشلت كل (اتجاهاتهم ومقولاتهم الغربية) لنسف التراث والأخلاق من المجتمعات الإسلامية، ومن هؤلاء الدكتور (عابد الجابري).

والغريب أنَّ (محمد عابد الجابري) بعد أن رجع عن مقولاته السابقة، واعترف بأهمية القيم والأخلاق، حاول أن يوجد لنفسه مسارات فلسفية عبثية بإسم (تأصيل الأصول)، للقضاء على ثوابت الأمة بحجة التجديد والتطور، وهي خرافة جديدة من خرافات (الجابري) حيث قال:

ـ (المطلوب اليوم في ميدان الشريعة هو القيام بمثل ما قام به فلاسفة الأشاعرة ـ فخر الدين الرازي مثلاً ـ أي بناء منهجية التفكير في الشريعة، انطلاقاً من مقدمات جديدة، ومقاصد جديدة).

وقد تناسى (الجابري) أنَّ الرازي لم يُرد تغيير القواعد الأصولية العامة ولا ثوابت الإسلام، بل حاول فهم وتفسير الأصول باجتهاد استند إلى علوم إسلامية عديدة، ضمن الثابت والمتغير في الفقه؛ وهذا عكس ما يدعو إليه (الجابري) الذي أكد بصراحة قائلاً:

ـ (المطلوب اليوم هو تجديد ينطلق لا من مجرد استئناف الاجتهاد في الفروع، بل من إعادة تأصيل الأصول، من إعادة بنائها).

وإعادة بناء الأصول عند (الدكتور الجابري) رافقها تشويه ومغالطات عديدة، لأنه نادى بذلك من أجل (التغيير المطلق)، مما يدل على جهله بماهية الذات ومقوماتها الضرورية لنهضة الأمة، وكذلك جهله بالأصول والثوابت، التي إذا اُصِّلت وفق (منهجية الجابري الغربية) ستؤدي إلى نشوء حالة هجينة، منفصلة تماماً عن الوقائع، لأنّ الثابت والمتغير، كما أوضحنا سابقاً، لهما قواعدهما الأصولية، التي يتقيد بها المتغير بالتحديد، سواء تم الحكم بـ(العناوين الثانوية)، أو حسب القواعد الفقهية الثابتة كقاعدة (تعارض الأحكام وترجيح أولى وأرجح الدليلين والحكمين)، وقاعدة (تزاحم الأحكام) وغيرهما، حيث يتغير الحكم الشرعي وفقاً للمصاديق الخارجية وتبدّل الملاك.

وهكذا يكون المتغيّر أميناً لثوابته الأصولية العامة، ولا يتناقض معها. أما خدعة (تأصيل الأصول)، التي أطلقها بعض المفكرين العرب مؤخراً، والذين كانوا سابقاً يرفضون مجرد الحديث عن قيم الإسلام ومبادئه، فتندرج ضمن (منهجية فلسفية) للقضاء على الإسلام بإسم الإسلام، وإدخال (توجهات الغرب وأخلاقياته) إلى مجتمعاتنا تحت غطاء (تأصيل الأصول)، وترويض (العقل العربي) على قبول (نظريات أخلاقية غربية)، لتغيير مفاهيم المجتمع المسلم وقيمه، واستبدالها بـ(قيم وأخلاق) نفعية ومادية ترتبط بجشع الإنسان وطمعه واستغلاله للآخرين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق