المقالات

حرب غزة وانقسامات أوربا (زياد ماجد)_2_

أوروبا بين التماهي مع أميركا والخصوصيات التاريخية

تماهت مواقف حكومات أوروبا إذن، عند شن إسرائيل حربها على غزة، مع المواقف الأميركية والإسرائيلية. ولم تتميز إلا المواقف الأسكتلندية والإسبانية والأيرلندية والبلجيكية الداعية منذ أيام الحرب الأولى إلى وقف إطلاق النار، إضافة إلى تمايز مسؤولين معروفين من القوى السياسية اليسارية في دول مثل اليونان والبرتغال وفي أطياف من اليسار الفرنسي عن الكلام المهيمن أو السائد.

لتفسير هذا التماهي البالغ مستوى غير مسبوق أوروبيًّا، على الأقل خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول، يمكن التوقف عند ثلاث مسائل:

المسألة الأولى تتعلق بحرب روسيا على أوكرانيا واكتشاف أوروبا مدى حاجتها الإستراتيجية إلى أميركا فيما يخص أمنها القاري وقدرتها على التعامل مع التحديات العسكرية التي تفرضها عليها روسيا. دفع الأمر معظم المسؤولين الأوروبيين إلى اعتبار التقارب مع واشنطن أفضل السبل في مرحلة استقطاب كوني وصراع مسلح واسع النطاق أصاب أوروبا نفسها. فكانت النتيجة فيما خص فلسطين اعتماد الأوروبيين نفس المواقف الأميركية من دون مسافة أو تمايز كما كان يجري في السابق.

المسألة الثانية ترتبط بصعود العنصرية تجاه المسلمين نتيجة تقدم تيارات أقصى اليمين أو اليمين المتطرف في معظم الدول الأوروبية، ووصول بعضها إلى السلطة أو أبوابها. ففي فرنسا، وصلت مارين لوبين للمرة الثانية إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية وصار حزبها أبرز الأحزاب الفرنسية. وفي ألمانيا، تقدم الخطاب اليميني المتطرف، ولو لم يبلغ السلطة، وكذلك الأمر في النمسا. وفي الدول الإسكندنافية، حقق اليمين المتطرف خروقات سياسية بعد عقود من سيادة الاشتراكية الديمقراطية وبات مشاركًا في السلطة في السويد، وتقدم أيضًا في هولندا، من دون أن ننسى وصول تحالفه إلى السلطة في إيطاليا وسلوفاكيا، وقبلهما في المجر وبولندا (قبل أن يتراجع بعض الشيء في الانتخابات البولندية الأخيرة).

واليمين المتطرف هذا قدَّم عداءه للإسلام والمسلمين والمهاجرين من إفريقيا على معاداته التاريخية للسامية. فبالنسبة إلى كثير من قادته يشكل تحطيم الإسرائيليين مجتمعًا فلسطينيًّا أو مجتمعًا مسلمًا أمرًا نموذجيًّا يمكن يومًا الاقتداء به في سبل التعامل مع “سكان أصليين” من مستعمرات سابقة باتوا في قلب أوروبا، مهاجرين مقيمين أو حاملي جنسية يمثلون ثقلًا ديمغرافيًا “مقلقًا”.

المسألة الثالثة التي أدت إلى التبدل في السلوك السياسي الأوروبي تجاه المنطقة تتصل بآليات اتخاذ القرار وانتقالها من وزارات الخارجية إلى رؤساء الدول ومستشاريهم. ففي فرنسا كما في عدد من الدول الأخرى، يبدو الرئيس ومحيطه أصحاب القرار بعيدًا أحيانًا عن المؤسسة الدبلوماسية. وهذا إذ كان مألوفًا في الحالة الأميركية، إلا أنه في الحالات الأوروبية، والفرنسية بخاصة، يبدو منحى آخذًا في التزايد منذ سنوات، وهو يعني خروج القرار من مسارات تغذيها خبرات الدبلوماسيين والباحثين المعنيين ودقتهم في انتقاء المفردات والمصطلحات، وانتقالها إلى مادة ينفرد في البحث فيها محيط الرئيس المباشر، المشكَّل من مستشاريه ومن أفراد نافذين من أصدقائه أو من مجموعات ضغط أو مراكز تفكير واستطلاع رأي من خارج جسم الدولة. وهذا ما بات البعض يسميه بخصخصة قرارات السياسة الخارجية. وهو ما يفسر بروز أخبار عن استياء ومراسلات في أوساط دبلوماسية ولدى موظفين في الخارجية الفرنسية كما داخل الاتحاد الأوروبي وبين ممثليه (وقبل ذلك في أميركا نفسها)، يرون في مواقف ماكرون وسواه من المسؤولين انحيازًا أعمى لحكومة نتنياهو(4).

بالعودة إلى مواقف القوى السياسية الأوروبية الأساسية، المتمثلة في البرلمان الأوروبي والمؤثرة في تشكيل الحكومات وفي الرأي العام، يمكن القول: إنها تتوزع على خمسة تيارات كبرى، تسري قسمتها إلى حدٍّ بعيد على معظم بلدان أوروبا (فيما عدا إنكلترا المستمرة في تقليد الثنائية الحزبية، وألمانيا حيث للتاريخ المعاصر، لاسيما خلال الحرب العالمية الثانية، ثقل كبير على السياقات السياسية ومفردات خطابها حتى الآن).

فهناك، أولًا، تيار أقصى اليمين أو اليمين المتطرف الذي أشرنا إليه والذي توسع حضوره كثيرًا منذ العام 2015. وهذا التيار يخوض معركة حضارية مع الإسلام والمسلمين الوافدين إلى أوروبا، ومراجعه السياسية والفكرية متعددة، لكن نقطة التقاطع بين مكوناته هي العداء للهجرة، والعداء للمؤسسات الدولية الكبرى. وبين أطيافه ثمة مَنْ وَفَد من مجموعات فاشية، وثمة من التحق به قادمًا من اليمين التقليدي أو من بيئات ريفية محافظة، وثمة من وجد فيه تنفيسًا عن حقده وغضبه على النخب القيادية أو ما يسميه “الاستبلاشمنت”. وغالبية هؤلاء، إن لم نقل جميعهم، يؤيدون الآن إسرائيل، لكنهم في مفارقاتهم وتناقضاتهم يحافظون على نظريات تآمر ما زال جوهرها معاديًا للسامية، وينتقدون أميركا الملونة والمعولمة ويفضلون عليها فيما يبوحون به أو ما يُضمرونه روسيا الأكثر “بياضًا” و”مسيحية”.

التيار الثاني هو ما يُسمى اليمين التقليدي (أو اليمين الجمهوري في الحالة الفرنسية). وهو يمين حَكَمَ في أكثر العواصم الأوروبية لفترات طويلة، أولوياته عادةً اقتصادية، وصلاته وثيقة بالمؤسسات الدولية والقارية وبأدوات العولمة المالية، وخطابه مناصر لإسرائيل وقريب من الخطاب الأميركي ويصل في الحالة البريطانية إلى حدِّ التماثل معه. واليمين المذكور يخشى فقدان المزيد من الحضور لصالح اليمين المتطرف فيزايد أحيانًا عليه في قضايا الإسلاموفوبيا وفي قضايا الهجرة وصولًا إلى قضايا السياسات الخارجية.

التيار السياسي الثالث هو ذلك المنحدر من عائلات الوسط السياسية، أي تلك المؤيدة لحرية رؤوس المال والاستثمار، لكن مع عقلنتها بخيارات وسياسات اجتماعية. ويتميز هذ التيار عن أطياف اليمين بمواقف تتجنب المنحى العنصري ولا تخضع لابتزاز اليمين المتطرف. ويفترق في المقابل عن اليسار في القراءات الاقتصادية وفي المسائل المجتمعية والبيئية. والوسط مشارك حليف في السلطة في أكثر من بلد أوروبي، ومُمثل في البرلمانات، وموقفه يميل أكثر فأكثر إلى القول بأولوية وقف النار والبحث عن حل سياسي. كما أن العديد من قياداته يذكِّرون دوريًّا بتدهور الأحوال في الضفة الغربية المحتلة منددين بالاستيطان واعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين.

التيار الرابع هو تيار الاشتراكيين والاشتراكيين الديمقراطيين، الذي بات يصنَّف في خانة يسار الوسط، وفقد كثيرًا من قوته ومن حضوره في العقود الماضية، لكنه ما زال يمتلك قدرة تمثيل في الانتخابات المناطقية والتشريعية نتيجة لعلاقاته التاريخية وشبكاته داخل الإدارات العامة في أكثر من بلد. ولهذا التيار إرث في السلطة أو في التأثير على التشريعات، ومنه انبثقت نخب حَكمت لفترات طويلة في فرنسا والدنمارك والسويد والنرويج وهولندا وألمانيا. وأحزابه بمعظمها، في هذه المرحلة، لاسيما في الدانمارك والسويد وهولندا وألمانيا، أعربت عن دعم لإسرائيل، وفي أوساطها تيارات كانت تاريخيًّا حليفة للصهيونية الاشتراكية ولحزب العمل الإسرائيلي. ويكرر موقف هذه الأطياف أن هناك ضرورة لحل سياسي، وأن العنف “ليس الإجابة الوحيدة”. ولكنه يُعبِّر عن ذلك فقط بعد تكرار لازمة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، ويتجنب انتقاد فظائعها وجرائم حربها.

التيار الخامس من الأطياف السياسية هو الذي صار يُصطلح على تسميته بتحالف اليسار وأقصى اليسار، ولو أن فيه تمايزات كثيرة. فهناك في صفوفه قوى وافدة من أحزاب شيوعية بدلت اسمها، أو أحزاب شيوعية لم تبدل الاسم، وفيه أيضًا من تركوا أحزابًا اشتراكية لاعتبارهم أن هذه الأحزاب نحت نحو الوسط أو اليمين، وفيه مجموعات تروتسكية، وفيه حركات اجتماعية صاعدة، تعتبر قضايا الحريات الفردية والتسامح ومعاداة العنصرية والمسائل النسوية والبيئية أولويات عالم اليوم، وتطل من خلالها على باقي القضايا بما في ذلك الاقتصاد والاجتماع السياسي. يُضاف إلى هذه المكونات حركات منبثقة من حملات نقابية أو مطلبية تشكلت في السنوات الأخيرة. وتتميز هذه المكونات جميعها، بمعزل عن أحجام التمثيل الشعبي (الذي يبلغ حدودًا واسعة في حالة “فرنسا العصية” أو “بوديموس” الإسبانية وغيرهما من الحالات التاريخية أو الناشئة في إيرلندا واليونان والبرتغال مثلًا)، بالنشاط والحيوية والحضور في تنظيم الأنشطة الثقافية والمواطنية. وهي برزت بمواقفها الرافضة لتأييد إسرائيل مذكِّرة بارتكابها جرائم ضد الإنسانية وأبدى بعضها مناصرة من دون لبس لحقوق للفلسطينيين ولكفاحهم من أجل الحرية. لكنها في المقابل اختلفت بشأن الموقف المصطلحي من “حماس”. البعض أطلق عبارة الإرهاب على عمليتها الأخيرة، والبعض الآخر رفض المصطلح وعدَّه سياسيًّا ولَو “أنه أدان قتل المدنيين الإسرائيليين”.

وعلى مسافة وثيقة من مكونات هذه العائلة الخامسة نجد “الخضر” أو البيئيين المشاركين في الدعوات في معظم العواصم الأوروبية لتظاهرات تضامن مع الفلسطينيين ولَو وسط ارتباكات وانقسامات.

ويفيد القول هنا، أن أوساطًا اجتماعية كبيرة منحدرة من الهجرات العربية والمغاربية والإفريقية، أو من المواطنين المسلمين في أكثر من دولة أوروبية استفادت من هذا التيار الخامس وحلفائه (أو هي بالأساس منخرطة في قواه) لتشارك في التظاهرات الواسعة ضد الحرب الإسرائيلية في باريس ولندن وبرلين وستوكهولم ومدريد وغلاسكو ودبلن وغيرها، ومثلها فعل طلاب وطالبات ثانويون وجامعيون، من خلفيات اجتماعية مختلفة، لا ينتسب أكثرهم إلى أي حزب، ويتسيسون الآن على وقع الحرب والمواقف الداخلية في بلادهم والدولية عامةً منها. وهذا سيكون له بلا شك تأثير على المقبل من الأيام لجهة تأسيس جمعيات وحركات سياسية جديدة والبحث عن ائتلافات ومواقف مشتركة لمواكبة الانتخابات القادمة في أكثر من بلد وعلى أكثر من مستوى (أوروبي ووطني ومحلي).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق