المقالات

تجديد الوعي(الغرضوف)

      في بعض الأحيان يكون تغير الوعي سريعا وجذريا بسبب ضخامة الأحداث التي تؤثر في مجرى التاريخ، وتوجد ظروفا وإمكانات وتحديات جديدة،؛ فانتصار ساحق في حرب، أو هزيمة منكرة في معركة، أو اكتشاف مؤامرة خطيرة، أو موت زعيم فذ، أو زلزال مدمر…كل ذلك يحدث للوعي ما يشبه (الصدمة) ويمنحه فرصة لأن يكتشف ذاته من جديد. وفي كل الأحوال فإن طبيعة التغير الذي يتعرض له الوعي متوقفة على أمرين: طبيعة الأحداث والصور والظروف الطارئة، وطبيعة التركيب العقلي للفرد والمجتمع. ويلاحظ في هذا السياق أن خصوبة الخيال، واتساع قاعدة الفهم، وارتقاء مستوى التعليم والانفتاح، ونجاح التربية السائدة…كل ذلك يجعل إمكانات تجدد الوعي وتغيره أكبر.

      لهذا فمن الصعب جدا تحصيل الوعي بدون صدمة مباشرة، كما حدث في كثير من اللحظات التاريخية، أي إدراك الواقع عبر معايشته والمساهمة في تغييره خاصة إذا استحضرنا عوامل تشكل الوعي على المستوى الاجتماعي، حيث أن مناط الأمر رهين بالمشروع الحضاري أو المشروع المجتمعي الذي من شأنه تنمية هذا الوعي وتطويره. فالقابلية لتجديد الوعي رهين بالقابلية لإدراك أهمية التجديد في حد ذاته، والتي سيشكل الوعي بالأزمة الوعي بالحاجة إلى التجديد، فهي علاقة جدلية.

      إن الحديث عن تجديد (الوعي) لم يكن واردا لولا اعتقادنا [كما يقول بكار]بقابلية وعينا للنمو، ولولا ثقتنا بإمكاناته في نقد ذاته، وإعادة طرح مقولاته ونظمه ونماذجه للمراجعة، مما يعني في النهاية قدرته على تجاوز ذاته وتطويرها.

إن إرادة الواحد منا حين تتجه إلى تحقيق شيء، فإنها تحفز الوعي على وضع مجموع خبراته وإمكاناته في خدمتها، لكن إرادة التجديد ليست هي الخطوة الأولى، وإلا لهان الخطب، وإنما تتمثل الخطوة الأولى في إدراكنا لأهمية التجديد، والتي كثيرا ما يكون الوعي غافلا عنها، أو معرضا عن الاستجابة للإشارات التي تنبهه إلى ضرورة الالتفات إليها”.

      إنه من الضروري العمل على تحقيق الكسب الخاص في مجال الوعي بالواقع، ومنه العمل على تحقيق ذات الكسب في مجال الاستمداد من الإطار المرجعي من أجل حل أزمات هذا الواقع وتغييره وإصلاحه. لا يمكن هنا تمني مصائب تزيد من واقع الصدمة باعتبارها دافعا حضاريا في صناعة الفعل ورد الفعل؛ فيكفي الأمة ما تعانيه في كل أقطارها تقريبا من مشاكل ومصائب. بل إن العالم في مجمله يعاني أزمة خانقة من موقع الإنسانية وبعدها الفلسفي الوجودي المصيري. لسنا في حاجة إلى صدمة بقدر ما نحتاج إلى مزيد من إرادات العاملين في الساحة الاجتماعية على أساس العمل على تجديد هذا الوعي، كل من موقعه: الأكاديمي والمربي والباحث والمصلح والداعية ..إلخ

من مظاهر التجديد في الوعي: الانتقال بهذا الوعي من المستوى الفردي الذي لا يجاوز الإحساس بالذات ومتطلباتها الأساسية بالنسبة لعامة الناس، وتحقيق المستوى الاجتماعي المرموق بالنسبة للنخب المثقفة، إلى المستوى الاجتماعي الذي يصبح فيه الفرد المشارك فاعلا ويصبح فيه المثقف عضويا بتعبير “غرامشي”، وصولا إلى المستوى الإنساني الذي يطال فيه الوعي مستويات أعلى في إدراك الواقع والأزمات التي يعاني منها ومن تم إدراك للواجبات المطلوب القيام بها على أساس مقتضى الاستخلاف والتكليف الشرعي الزمني.

      إن اعتبار الوعي بالأزمة كمقدمة أساسية في البناء الحضاري ومواجهة إشكالية سؤال النهضة، لا يمكن أن يؤتي أكله والثمار المرجوة منه إلا من خلال اعتبار شمولية الأزمة وامتداد مجالها ليطال الغرب نفسه، فالأزمة عالمية لا ذاتية فقط، وهذا مؤشر أول وأساسي على تطور وتجدد الوعي؛ فإذا كان الأمر كذلك فالمنهج المطلوب يجب أن يراعي ـ وهو يبني مفرداته وآليات اشتغاله ـ معطى عالمية الأزمة، حتى لا يتغرب المنتوج المراد منه في استلاب تاريخي أو حضاري .

المؤشر الثاني على تجدد الوعي الذي يمكن أن نستشهد به في هذا المقام، هو تطور الوعي بأن تُدرك إشكالية المنهج ودورها الحاسم في تحديد الوجهة التي يمكن أن تمضي فيه الأمة من خلال قيادة وعي نخبها، وطبيعة هذا الوعي الذي من شأنه حماية الأمة من الشتات والتفرق كما هو واقع الآن، وذلك على اعتبار أن هذا التفرق يعتبر أحد الأسباب الرئيسية لتخلف الأمة.

لقد “تمثل الوعي بتخلف واقع الأمة وحاجتها إلى النهضة في كتابات الكثيرين من دعاة الإصلاح منذ قرن ونصف، ولكن هذا الوعي بدا مرتبكاً مشتتاً، موزعاً على منهجيات أحادية قاصرة؛ فمنهم من دعا إلى منهج سلفي لحمته تقديس الماضي والثناء على السلف، وسداه القطيعة مع مناهج الغربيين وبيان عوراتهم ومثالب إنجازاتهم، حتى إذا التفتوا إلى نصيبهم من الدنيا، أرسلوا أبناءهم للتعلم على مناهج الغربيين، ولحقوا بهم للاستمتاع بمنجزات هذه المناهج، وملئوا بهذه المنجزات بيوتهم ومكاتبهم وشوارعهم؛ ومنهم من دعا إلى منهج حديث أعمل فيه فنون جلد الذات، والاختيار الانتقائي من التاريخ الإسلامي الذي يظهر من الوقائع والنماذج ما يجعله مبرراً لهدم التاريخ كله والقطيعة معه، أما الغرب فإن له من الفضل وفيه من العبقرية ما يؤهله للسيادة والقيادة” بحسب نظر هذا الاتجاه، وهكذا توزعت رؤى نخبنا حول منهجية الإصلاح.

      والخلاصة المستفادة من هذا التباين هو أن الإشكال الحقيقي يتلخص في سؤال المنهج، ولهذا نعتقد أن الوعي الحقيقي هو الوعي بالمنهج لا مجرد الوعي بالأزمة، وإن كان هذا مهما في جانب كمقدمة أولى في البناء الحضاري؛ لأن الوعي بالأزمة والاستغراق فيها، جعل البوصلة الإستراتيجية تتجه إما إلى جلد الذات وتمجيد الآخر أو رفض الآخر وتضخيم الذات الشيء الذي تسبب في استمرار الأزمة.


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق