المقالات

المثقف الفيلسوف والفيلسوف المثقف(قاسم خضير عباس)

إنَّ الإشكالية التي أطرحها اليوم هي إشكالية الفيلسوف والمثقف، ومن الأجدر منهما على تشخيص أمراض المجتمع. الفيلسوف يبحث غن غايات الأشياء، والمثقف أيضاً يبحث بوسائل الفيلسوف عن الغايات، ولكنه أكثر دقة وموضوعية لأنه يشخص واقعه بكل أمانه، وينتقد كل السلبيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ولذا فإننا بحاجة إلى مثقف فيلسوف وليس إلى فيلسوف مثقف، فالمثقف القانوني –مثلاً-هو الأجدر على تشخيص عيوب القانون وترهله، وابتعاده عن غاية القانون الفلسفية المتمثلة في تحقيق العدالة في المجتمع؛ وبسبب اختصاصه الدقيق في القانون يعرف إشكاليات التشريع ومشاكل عرقلة تنفيذ القواعد القانونية. عكس الفيلسوف الذي يبحث عن غاية القانون المتعلقة بتحقيق العدالة، عبر رؤى فلسفية عامة شمولية دون الدخول في تفاصيل سلبيات القانون وعيوبه؛ ولذا فإننا بحاجة للمثقف القانوني الفيلسوف وليس للفيلسوف القانوني.  

وهكذا في كل تخصصات المثقف الأخرى سواء كانت اقتصادية أم اجتماعية أم عامة، نحتاج لعلاج أمراض المجتمع إلى مثقف متخصص فيلسوف ولا نحتاج إلى فيلسوف مثقف، لأنَّ الأخير يمكن أن يدخلنا بمتاهات فكرية فلسفية نحن في غنى عنها. وقد وجدنا بعض الفلاسفة العرب قد ورطوا المجتمع العربي في إشكاليات فكرية، لكنهم بعد ذلك رجعوا عن أوهامهم، كالفيلسوف (زكي نجيب محمود)، الذي رجع عن كل ما آمن به من الولع بالمنهج الغربي في كتابه (عربي بين ثقافتين).

ومن الجدير ذكره في هذا الصدد أنَّ كل من الفيلسوف والمثقف ينطلق من واقعه في تقديم طرحه، ووجهة نظره عن الاحداث والاشياء التي حدثت والتي ستحدث في المستقبل. لكن الفيلسوف يتجه في فكره إلى المثل العليا والعموم والغايات، فيما المثقف يضع نصب عينيه الواقعية والتشخيص لكل حالة، فليس لديه معيار محدد حيث تتغير المعايير عنده لكل حاله.

إنَّ المثقف الفيلسوف هو الذي يمعن عقله المنطقي لتشخيص إشكاليات وأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، لأنه الأقدر على تشخيص الواقع المعاش على وفق آلياته الفكرية والمعرفية المتعددة.  وقد يكون المثقف الفيلسوف واحداً من الذين ساهموا في العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية الأخرى التي انفصلت عن الفلسفة، مثل الفنون، والتاريخ، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، واللسانيات، وعلم الإنسان، واللاهوت، والسياسة.

 ولذا فإنَّ المثقف الفيلسوف غير المأدلج هو متخصص في مجال عمله، ويستطيع بعقله أن يشخص أمراض المجتمع على وفق رؤى فلسفية، تستند إلى البراهين الاستقرائية والاستدلالية في علم المنطق، الذي هو آلة قانونية تعصم عقل المثقف من الوقوع في الخطأ. إنَّ المثقف الفيلسوف الملتزم يصوغ أفكاره على شكل مباني فلسفية ومبادئ وتصورات عقلية، ولا يغادر نشاطه الفكري النابع من وعيه وفهمه وسعة أفقه، إلا حين يتوصل لتشخيص أمراض وأزمات مجتمعه، ويضع الحلول لها ويدافع عنها بكل شجاعة وقوة واقتدار. ويذكر الفيلسوف والكاتب المسرحي والروائي الفرنسي (البير كامو) عن المثقف الحقيقي بأنه: (يستطيع عقله مراقبه نفسه)؛ بمعنى أنه مثقف فيلسوف ينطلق من ذاته بفلسفة واقعية.

 لقد ازدادت تحديات المثقف الفيلسوف مؤخراً في المجتمعات المسلوبة الإرادة والاستقلال الحقيقي، بفعل سيطرة الدول الغربية الكبرى على مقدرات العالم. وقد أشار المفكر العربي (ادوار سعيد) في كتابه (الثقافة والامبريالية) إلى حجم هذه التحديات المصيرية على المثقف الفيلسوف، الذي يجعل ثقافته مصدراً من مصادر البحث عن الهوية، بالرجوع بالثقافة إلى الذات والتراث؛ وهو عمل يجد المثقف الحقيقي من يعارضه فيه من المتعلمين العرب المتغربين فكرياً.  

وهذه الاشكالية يعتبرها الطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي (فرانز فانون) مشكلة حقيقية، أفرزها الصراع بين النظم الاجتماعية والسياسية والنفسية التي تشكل نظام العالم بقيادة (الولايات المتحدة الأميركية). إنَّ (فانون) الذي شخص أمراض ما بعد الاستعمار، يؤسس في كتاباته النفسية مساراً لتغيير النظام العالمي عبر دفاعه عن أطروحة أنَّ: (المناضل الذي ينتجه خطابه قد أدرك منذ ولادته إدراكاً واضحاً أنَّ هذا العالم المُضيّق، المزروع بأنواع المنع، لا يمكن تبديله إلا بالعنف المطلق).

ففي رؤية (فانون) فإنَّ: العنف لغة الصراع في البلاد ما بعد الاحتلال يكون لإرجاع سيادة البلد وتطبيق الدستور والقانون الوطني، وأساس هذا الصراع الثقافي هو المثقف الفيلسوف الحقيقي. ولذا بحث (فانون) بصورة نفسية شخصية المثقف، فحلله نفسياً واجتماعياً وثقافياً، ابتداء من علاقة المثقف بالسلطة المُنَصَبة من المحتل، وانتهاء بمدى نجاح المثقف في كسب ثقة شعبه وأمته وعلاقته بواقعه. 

إنَّ الصراع الثقافي ما بعد الاحتلال بين المثقف الحقيقي والمثقف المتعلم المبهور بالقيم الغربية، هو صراع حول القيم والأخلاق والمبادئ والسلطة، صراع ثقافي يتمحور حول قيادة هذه الشعوب إلى لحظة التحرر الكامل وسيادة البلد. تحليل هذه النخب المثقفة، يبين مدى الصراع وقوته بين مثقفي هوية الذات والأصالة ومثقفي الاحتلال، الذين (تغلغلت فيهم الروح الاستعمارية وطرائقها في التفكير).

والأخطر من ذلك فإنَّ (فانون) يتوصل بتحليله النفسي إلى يأس المثقف الفيلسوف في الدول ما بعد الاحتلال، إذا خسرت النخبة المثقفة معركتها مع مثقفي ذيول الاحتلال، ووقوعها أسيرة للخوف من العنف والخوف من بقايا الاحتلال. وهذه الاشكالية حسب رؤية (فانون) يدركها المحتل ويوظفها في صراعه مع المثقفين الوطنيين، ولذا نجده يوظف الدين وسلطة القبائل والعشائر ضد التحرر والتغيير، ويوظف خارج المدينة ضد من هم داخلها، ويوظف المثقفين ضد قاعدتهم الشعبية.

إذن المثقف الفيلسوف هو مثقف التحديات المصيرية يتدخل وبقوة بموضوع إرجاع كرامة أمته، وحماية سيادة بلده، ويساهم في الاصلاح والقضاء على الفساد الإداري والسياسي ونهب المال العام. فهو بالمفهوم السارتري: (مثقف حقيقي) يختلف عن (المثقف المزيف)، الذي يبرر ما لا يُحتمل من الظلم الفاحش، ويعارض النقد البناء ويتهم المعارضة الحقيقية. المثقف الملتزم (الفيلسوف) عند (سارتر) هو الذي يتخذ مواقف عقلية واضحة من القضايا المعاصرة، بحيث يشعر بمسؤوليته تجاه الواقع من حوله.

وهكذا فإنَّ المثقف الفيلسوف الحقيقي عند مفهوم (سارتر) هو من يدافع عن الحريات العامة الأساسية في الدستور والقانون النافذ، ويُغيّر الواقع الفاسد السائد، ويصر على قول الحقيقة مهما كانت النتائج. ونجد أيضاً هذا المعنى في مفهوم (فوكو) حول المثقف الحقيقي، الذي يحرص على تتبع الوقائع ويفحص المسلمات والمصادر؛ وذلك عبر التحليل العقلي والبراهين المنطقية الاستقرائية والقياسية الاستدلالية.

وأتصور من هذا الاتجاه أنَّ الفيلسوف والروائي الفرنسي (جوليان بندا) قد شن هجوماً لاذعاً على المثقف المهزوز في كتابه (خيانة المثقفين)، فهذا المثقف غير الحقيقي ينسى بدون أخلاق قيمه ومتبنياته الواقعية. ولكن (بندا) نفسه من جهة أخرى يعتبر المثقف الفيلسوف الحقيقي هو المنقذ، لأنه من ذوي القدرات أو المواهب الفائقة والأخلاق الرفيعة. 

ويضيف (بندا) بأنَّ: المثقف الحقيقي يكون ضمن (طبقة العلماء والمتعلِّمين البالغي الندرة نظراً لما ينادون به ويدافعون عنه من قضايا الحقِّ والعدل). وهذا الرأي يخالف للأسف الشديد ما ذهب له الفيلسوف (ابن خلدون) في الاستهزاء من المثقف المستقل عن السلطة، الذي لا يجد من يطلب منه العلم أو النصيحة!! 

إنَّ خصائص المثقف الفيلسوف الحقيقي أجد ملامحها العامة عند (علي شريعتي) وحديثه عن المثقف في كتابه (مسؤولية المثقف)، فهو ذلك الشخص الذى يتسم بوضوح الرؤية وسعة الأفق وقيادة المجتمع إلى بر الأمان؛ ومن الاقتراحات التي يضعها (شريعتي) لبناء الحضارة هي العودة إلى الذات وتوعية الناس ومواجهة الجمود والتقليد.

كما أجد خصائص المثقف الفيلسوف عند الطبيب الروسي والأكاديمي والباحث المسرحي (أنطون تشيخوف)، من خلال الشروط المعروفة عنده (بشروط المثقف)؛ وهي التعاطف والتواضع والحس الجمالي وعدم التذمر. وقد اشتهر (تشيخوف) بكتاباته المسرحية وقصصه القصيرة، واعتبر من أعظم الكتاب الروس خاصة في كتابة القصص القصيرة، وكانت لمسرحياته أثراً عظيماً في إثراء الأدب الروسي والعالمي في القرن العشرين. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق