المقالات

اللعبة السياسية بين الماكرين والطيبين والحازمين(إدريس اوهلال)

دعونا أولا نتساءل: ما السياسة؟
السياسة هي مجال الرهانات على السلطة بامتياز، فهي كل ممارسة هدفها الحفاظ على سلطة، أو السعي لامتلاك سلطة، أو التأثير على من يمتلك سلطة.. لا سياسة إلا بارتباط مع سلطة (السلطة بمفهومها الشامل: سلطة المال، أو سلطة الحكم، أو سلطة التشريع، أو سلطة المنصب، أو سلطة الخبرة…)، وعلى الذين يمارسون السياسة ويقولون “لسنا طلاب سلطة” أن يراجعوا فهمهم للسياسة.
في تعريف السياسة قالوا هي “فن الممكن”.. تبرير للإرادة العاجزة التي تُخفي عجزها عن طلب “المستحيل”، أو تنوير للإرادة الحرة لتعرف كيف تسعى إلى السلطة بذكاء وعلى مراحل.
وقالوا في تعريف السياسة أيضا هي “أن تقول ما لا تفعل، وتفعل ما لا تقول”.. “مكر حَسَن” ومناورة لمنع الخصم والعدو من معرفة ما تفكر فيه وتُخطط له، أو “مكر سيء” لخيانة الوعود والنصب على الشعوب والجماهير.. عندما يتحدث السياسي الماكر عن “الإصلاح” مثلا فانتظر المزيد من الإفساد.
هي إذن سياسات لا سياسة واحدة: سياسة الماكرين، وسياسة الطيبين، وسياسة الحازمين.

أولا: سياسة الماكرين
يمارس الماكرون السياسة بالمعنى المتوحش، ولسياستهم المتوحشة خصائص، أهمها:
1- يعرفون مصالحهم بشكل واضح، ويسعون في تحقيقها بالوسائل المشروعة وغير المشروعة، ويميلون إلى التملص من أداء واجباتهم ومن قواعد اللعبة متى كان ذلك يعزز مواقعهم ومصالحهم.
2- يستخدمون استراتيجيات شمولية في المواجهة.. السلطة والمال والأعمال والمعرفة والتعليم والدين والمعلومات والإعلام والثقافة والفن والرياضة… كلها معارك متكاملة في حرب واحدة.
3- يرفعون القيم (الحرية مثلا) كشعارات مطلقة للتمويه والإخفاء واستعباد الناس.. القيم عندما تُرفع شعاراً مطلقاً فإنها تُعبر عن سذاجة في الفهم أو نية في الاستعباد.
4- تتغدى سياستهم المتوحشة من العداوات.. وإذا لم يجدوا عدواً صنعوه وتحكموا فيه.
5- السياسة بنظرهم أَجَمَة؛ يسعى فيها السباع للافتراس، ويؤدي الذئاب والثعالب وظيفة حراسة المعبد، وتستخدم الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة، والأكباش للأضحية.
6- يشتغل حراس المعبد بالعبث والرداءة كنمط في العمل، ويستخدمون الشتائم والضربات تحت الحزام بدل الحوار كأسلوب في المواجهة.. كل الفنون أنتجت أشياء جميلة إلا فن السياسة بالمعنى المتوحش لم ينتج إلا الرداءة.
7- الخيل والبغال والحمير نوعان: مرَوَّضة ومتوحشة. المرَوَّضة تصلح للركوب والزينة بعد ترويضها وتقييد بصرها ووضع الحجب على حافتي وجهها كي تنضبط وتسير في الاتجاه “الصحيح”، والمتوحشة تصلح للركوب والزينة أيضا لكن على المدى البعيد لأن قادة الأَجَمَة يَتَمَوَّلون منها ويجعلون منها خزاناً لصيدهم.
8- الترويض السياسي هو علم وفن جعل المتوحشين يتعلمون، بترهيب خارجي أو رقابة ذاتية، منح ظهورهم للركوب.
9- لا يوجد بنظرهم أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، وإنما مصالح دائمة فقط، والمصالح بمفهومهم هي نقيض المبادئ لا نقيض المفاسد.
10- يتعاملون مع اللعبة دائما على أنها صفرية. في الألعاب الصفرية لا يوجد ما يكفي من الفرائس للجميع؛ لذلك عندما تبدأ الفرائس المتاحة تتضاءل في العدد، فمعنى هذا أن القرش العظيم قد اعتلى القمة.

ثانيا: سياسة الطيبين
ويمارس الطيبون السياسة بالمعنى الساذج، ولممارستهم السياسية الساذجة خصائص، أهمها:
1- أصحاب عاطفة مجنحة في سماء الأحلام، ينتشون في غيبوبتهم السعيدة ونشوتهم المُخدّرة في عوالمهم المثالية بعيداً عن الواقع الحقيقي.
2- عندما يمارسون السياسة يفتقدون دائما إلى الفعالية، ويقعون في عود أبدي في نفس الأخطاء القاتلة، ولا يتعلمون أبداً.
3- أخلاقياتهم تفتقد إلى القاعدة المادية الصلبة للمشترك البشري والقوانين الاجتماعية والانسانية التي تجري على الجميع، ويترتب عن هذا الفراغ القاعدي سياسة مثالية وخلط فظيع بين القيم العملية والقيم الأخلاقية.
4- يتمذهبون بشكل مطلق وأبدي لكل قيمة، ويعتقدون مثلا، في غيبوبة سعيدة، أن قيمة الحوار هي فقط للإقناع والتعايش وقبول الإختلاف، وليست أداة لإدارة الصراع أيضاً.
5- الطيبون كائنات ساذجة في فهمها، لا تسمح لهم نواياهم البريئة برؤية اللعبة وقواعدها ورهاناتها وصراعاتها والفاعلين فيها ومشاريعهم واستراتيجياتهم. والسذاجة هي نوع من السم القاتل. يكفي منه كأس واحد لتفقد حياتك، والطيبون يشربونه كل يوم.
6- آمالهم ساذجة أيضاً؛ فكلما تحدث متحدث مثلا عن نهاية تَعَلّق خيال عاطفتهم بالبديل الذي يحلمون به!
7- لا يعرفون مصالحهم بشكل واضح، لكن يعرفون واجباتهم بشكل جيّد. ويميلون إلى التضحية بحقوقهم في مقابل تفانيهم في أداء واجباتهم.. اختلال فظيع في التوازن.
8- عندما يقاومون غالبا تكون مقاومتهم شرسة، لكن من السهل ترويض مقاومتهم، إذ يكفي الضرب على بعض الأوتار العاطفية لتتبخر مقاومتهم بسرعة.

ثالثا: سياسة الحازمين
ويمارس الحازمون السياسة بمعنى ثالث يوجد في المسافة الممتدة بين سياسة الماكرين وسياسة الطيبين، وخصائص السياسة الحازمة هي:
1- القدرة على الجمع بين أخلاقية الغاية وفعالية الوسيلة.. الماكرون يستخدمون وسائل فعالة لكن غير أخلاقية، والطيبون يستخدمون وسائل أخلاقية لكن غير فعالة، والحازمون وحدهم يؤكدون بأسلوبهم المتوازن أنه توجد بالفعل وسائل فعالة وأخلاقية في نفس الوقت.
2- يتسلحون بفهم واقعي للطبيعة البشرية وإدراك عميق للقوانين الاجتماعية وتحليل دقيق لموازين القوى، ويتسلحون أيضاً بالصبر والزمن في المواجهة.
3- يتعلمون بشكل جيّد وسريع ومستمر، ويُطَوِّرون أداءهم بعد كل جولة جديدة من المواجهة.
4- عندما يجدون اللعبة أكبر منهم يشتغلون على المدى البعيد، ولا يغامرون بالدخول في معارك خاسرة.
5- أصحاب قيم لكن من غير تمذهب مطلق لها، فهم يتعاملون مع القيم بنسبية وتوازن وذكاء، فالحوار مثلا بنظرهم هو أسلوب للإقناع والتعايش وقبول الإختلاف، وأداة لإدارة الصراع في نفس الوقت.
6- عندهم توازن عجيب بين الحقوق والواجبات.. يعرفون مصالحهم بشكل واضح ويسعون في تحقيقها، ويعرفون واجباتهم بشكل جيّد ويتفانون في أدائها.
7- أساس السياسة الحازمة هو الذكاء الموقفي، لا يتصرف الحازمون انطلاقا من نمط شخصيتهم فقط وإنما انطلاقا مما يقتضيه الموقف أيضاً: القوة في مواقف المواجهة، والمكر في مواقف التربص، والمناورة في مواقف المراوغة، والرحمة مع المستضعفين في كل المواقف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق