المقالات

العداء للثورة أم للذات..! (أحمد أسرار)

العديد من المؤدلجين العرب لم يكونوا متتبعين لتفاصيل المشهد السوري منذ اندلاع ثورة الشعب ضد النظام الحاكم سنة 2012، وآخرون لم يرقهم أن ينتفض الشعب السوري ضد نظام بشار، لسبب بسيط هو أن بؤر إيديولوجيتهم في طهران أو الرياض أو موسكو أو الغرب أو حتى في إسرائيل بالنسبة للبعض، لم تبارك هذه الثورة ولم تبارك الربيع الثوري الذي فاجأهم من تونس، وهو لا يزال يتهدد لحد الساعة عروش طغاة خدموا بإخلاص مستكبري الشرق أو الغرب أو هما معا.

 فكما يستحضر البعض مسوغات  الحرب على الإرهاب التي وحدها تحل الحرام وتحرم الحلال ليبرر التدخل الفرنسي الإيطالي في ليبيا والتدخل الأمريكي بالأمس في أفغانستان والعراق،  يبرر بعض السذج التدخل السعودي الإماراتي في مصر واليمن بداعي حفظ الأمن حينا ومحاصرة المد الإيراني حينا وتجفيف منابع الإخوان المسلمين حينا آخر، وبمبررات لا تقل استغفالا للعقول يبرر البعض الآخر تدخل حزب الله وإيران وروسيا في سوريا بحجة حماية المقاومة وإحباط المؤامرة الكونية ضد نظام بشار، عرين العروبة والممانعة.

هذه المواقف التي تتصاعد بين الفينة والأخرى من طرف جماعات يجمع بينها العداء السافر لتاريخ الأمة ومفهومها، لا يمكن فهمها إلا على ضوء جملة من الانحرافات الفكرية والسياسية والنفسية التي تتركب في حالة مرضية تثير الاشمئزاز من الذات والرفض غير المبرر لتحررها ووحدتها وسؤددها.

وكان المفكر العلامة ابن خلدون، قد نحت في بدايات الانحراف الذي أصاب العقل الجمعي لهذه الأمة، عبارة دقيقة لخص معناها في عنوان الفصل الثالث والعشرين من  “مقدمته” : “في أن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”1. وهي عبارة تفي بالكثير من الغرض في تحليل دواعي التموقف المعادي للذات.

لم يثر ابن اخلدون هذا الأمر من زاوية الغالب المنتصر وأسباب حيازته للقوة ولم يضخم من لغة المؤامرة، بل تناول الموضوع من زاوية المغلوب، واعتبر الهزيمة التي تلحق به نتيجة حتمية لمقدمات سابقة لخصها بقوله المشهور “الظلم مؤذن بخراب العمران”2، وهي أيضا مقدمة لسلسلة من الهزائم التي لا تنتهي إلا وقد شاع التقليد والانقياد وتوارت الزعامات والعزائم.

 فكل مغلوب عاجز عن امتلاك بنيات للصمود والمقاومة يتزايد عنده الضغط النفسي ويتنامى عنده الانحراف في الفهم والخور في العزم، ناهيك عن الحالة التي يكون فيها المغلوب مغلوب حضاريا وفكريا ونفسيا، فيزداد الضغط ويتسع الانحراف أكثر، حتى ينقاد المغلوب للغالب وينصاع لثقافته وإيديولوجيته ولغته ودينه واقتصاده وسياسته، ثم ويبرر كل ممارساته.

فلأن القوة هي الحقيقة  الغائبة والمرجوة بالنسبة للضعيف ، ولأن الهزائم المتكررة والاستسلام لها يولد لدى المغلوب شعور متزايد بالدونية وعدم الكفاءة أمام الغالب الذي وحده يعرف ووحده يقدر ووحده يستحق من الأساس، مما يؤدي إلى توطيد الولاء للغالب، مع ظهور ضروب سلوكية متطرفة ومعادية للذات والهوية، فيعادي دينه ولغته وثقافته بحثا عن القوة التي يعتقد أنها لا توجد إلا في خدمة أعتاب القوي الغالب.

وهذا واضح جدا في مثال الربيع العربي، فعلاقات الغالب بالمغلوب القائمة قبل الربيع تفسر إلى حد كبير ولاء جماعات داخلية للمستكبرين في الخارج، والأمر أوضح في المثال السوري واليمني والليبي… مع اختلاف حجم التأثير من بلد إلى آخر.

وطبعا لا يقر المغلوب بشعوره بالنقص ولا باستسلامه لنحلة الغالب، فيبحث لنفسه عن نسق من الأفكار، مقبول منطقيا، ليبرر به كل مواقفه وسلوكاته، وهو ما يتأتى له من خلال الإيديولوجية.

يقول أنتوني غيدنز أن الإيديولوجيا ترتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم القوة ، فهي “سلطة رمزية ونسق من الأفكار والمعتقدات التي تعمل على إضفاء المشروعية على تباين القوة التي تحوزها الجماعات المهيمنة”3.  فالأفكار التي تتلبسها الإيديولوجيا تصبح معتقدات ومعايير للقياس. والمعتقدات لا يستدل عليها، ولا يجوز أبدا التفكير فيها أو في معقوليتها فمنها نفكر وبها نستدل.

وطبعا، المهزوم حضاريا لا ينتج أفكارا ولا يصوغ إيديلوجيا بل ينقاد لإيديولوجيا الغالب أو يركن إلى الشذوذ الفكري والسياسي، الذي يؤدي به حتما إلى العداء للذات والهوية والدين والوطن.

ومن الأسباب أيضا، التي تعمق انحراف البوصلة وتنمي العداء لمفهوم الأمة، نجد العياء النضالي الذي لابد أن يصيب الجميع. فالعياء لن يسلم منه أي مناضل مهما عظمت لديه بنية المقاومة ومهما برزت لديه استعدادات الصمود والتضحية. لكن ليس العياء هو العيب، بل العيب والكارثة هو أن يتسبب هذا العياء في تحريف الوعي وتقزيم الأهداف واختراق البنية الفكرية والعقدية، فيبدأ اللهث وراء تحقيق المكاسب السريعة بذريعة الواقعية ، وشعار ليس بالإمكان أحسن مما كان، ذلك كله لتبرير دواعي التماهي مع العدو والتكيف مع الظلم والاستبداد.  

تمتزج آثار الهزيمة والشعور بالدونية مع الإيديولوجيا والشذوذ الفكري والعياء النضالي فتتركب حالة مرضية يتداخل فيها السياسي الفكري مع النفسي الاجتماعي، لتنتج عدوانية داخلية شبيهة بحالة الانتحار التي تؤدي بصاحبها إلى نقل العدوانية إلى الذات بدل تصريفها ودفع الظلم عنها.

وإلا كيف يمكن فهم دواعي دعم البعض الثورة في بلد ورفضها في آخر، ولما يتمرد فقهاء الولاء على حاكم شرعي مثل مرسي، وينحاز أساتذة فقه الثورة إلى  انقلابي سفاح مثل السيسي؟ وكيف تنزل غشاوة العمى السياسي والإيديولوجي على عيني من لطالما تموقفوا جذريا من أنظمة أقل شرا من الأنظمة العربية الحالية، حتى يجدوا في قاتل مجرم مثل بشار الأسد الوارث لعرش أبيه مدمر حماه بالأمس، والمتنازل عن أرض الجولان للصهاينة، دون إطلاق رصاصة  واحدة، والحاكم لعقود من الزمن دون أن  تجد سوريا طريقها بعيدا عن التخلف والاستبداد الممتد على طول الجغرافيا العربية؟

مراجع:

1- عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عبد الله محمد الدرويش ،ص 243

2- عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، ص: 477.

3-  أنتوني جيدنز، “مقدمة نقدية في علم الاجتماع”، ترجمة أحمد زايد وآخرون”، مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 2002.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق