غير مصنف

الخطاب السياسي والفضاء العمومي في زمنية الاحتجاج(منير الجوري)

الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده..أما بعد        

فإن الفضاء العمومي كان يشكل المساحة التي تنبت فيها الخطابات التي تبشر بالحرية والديمقراطية، ومنذ العهد اليوناني وعبر تاريخ الساحات العامة، كان هناك دائما سعي جدلي لتحويل الفضاءات المشتركة إلى أحد صنفين:

_ إما إلى ميادين يوجد فيها “الإنسان” بكرامته وكامل حقوقه مجسدا لها أو مطالبا بها..

_ وإما إلى امتدادات سلطوية لصناعة “الإذعان و”الخوف” يوجد فيها “الإنسان” بالمفرد” و”الجمع” خاضعا في “طوابير تاريخية” لأوهام السلطة وفزاعات السلطان..

         واليوم باتت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تلعب دورا حيويا في الارتقاء بالفضاء العمومي ليمثل أفقا للقاء الشعب حول مطالبه المشروعة، وفي استعادته لكلمته المسروقة..وكلنا يذكر الجهد الذي بذله يورغان هابرماس في تعميق نظرتنا للفضاء العمومي الذي ارتبط بترسيخ الروح الديمقراطية على أسس تعارفية وإقناعية بدل الارتباطات التقليدية التي تجمع أفراد المجتمع على أساس العلاقات السلطوية..

         ويبقى الفضاء العمومي حسب هابرماس يحتل موقعا مركزيا في الفكر السياسي المعاصر باعتباره مجالا للتواصل و إطارا لمختلف القدرات الفكرية على عمليات البرهنة و الإقناع، و الحل الرمزي للصراعات بنوعيها الداخلية و الخارجية، و ليس بأي حال من الأحوال مجالا للعنف و الهيمنة و نفي الآخر أو إقصائه.

         في هذه الدراسة التي يتشرف مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية بتقديمها، اجتهد الباحث في علم الاجتماع السياسي الأستاذ منير الجوري في تتبع العلاقات الحيوية التي جمعت الفضاء بخطابات الاحتجاج التي حملها الربيع العربي إلى “العلن”، لتصبح “مرئية” و”مسموعة”..ويصبح معها الوجود العربي والإسلامي “مميَّزًا” عبر الشعارات التي رفعها جيل الشباب في وجه “السلطة” الفاسدة بشقيها السياسي والاقتصادي..

         نكتشف جميعا، من خلال هذه الدراسة النوعية التي يجمع صاحبها بين عُدَّة لسانية واطلاع متنوع في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية وتخصص واضح في التواصل السياسي، مقاربة علمية استطاعت أن تضع الشارع العربي وتحديدا “المغربي”، تحت مجهر البحث والتفكيك، مستدعيا في ذلك أدوات يجمعها التكامل في خدمة رؤية الباحث “الواعية” و”المتبصرة”.

         في هذه الدراسة التي تتسم بقدر كبير من الجرأة العلمية يخوض الباحث منير الجوري غمار رسم خارطة التواصل السياسي عبر كافة أشكاله وحدوده وتضاريسه المتصلة والمنفصلة في علاقته بموضوع “الاحتجاج” و”التعبير السياسي” عن “حزمة المطالب” المشروعة، فينقلنا من الأشكال التقليدية إلى الطفرات التي رافقت دخول الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي حياة المجتمعات والشعوب، لتتحول مفاهيم “الاحتجاج” بفعل ثورة المعلومات، وليتحول معها فضاء الاحتجاج من الميادين العامة الكلاسيكية إلى ميادين افتراضية “بديلة أحيانا” و”مساعدة”  أحيانا أخرى على تسريع ائتلاف الناس حول موضوع احتجاجي معين، فقد سهل الانترنت سرعة الاستجابة للأحداث السياسية والتفاعل مع القرارات السلطوية التي تستدعي تحركا شعبيا مُقاوما في سرعة قياسية، فلم يعد الأمر يتطلب مرَكبَات تحمل أبواقا وتطوف في فضاءات المدينة تنادي لتظاهرة أو حشد أو توزيع منشورات في الخفاء تفاديا للملاحقات، أو إنفاق مبالغ طائلة من أجل الدعاية السياسية عبر وسائل الإعلام التقليدية، بل الأمر يتوقف على تحرير رسالة لجمهور مجموعة تواصلية أو لقائمة بريدية، فينتشر الخبر كالنار في الهشيم بفعل عمل خاصيتي الإعلام الجديد؛ الترابطية والتفاعلية، وهكذا يتداعى المعنيون إلى مواعيد “التدافع والمقاومة”، وهو ما أكدته العديد من الدراسات التي تناولت دور الإعلام الافتراضي في تحريك الشارع العربي.

         بل إن ثورة الانترنت أضافت لمعجمنا السياسي مفاهيم جديدة من قبيل “الديمقراطية الإلكترونية” و” المجتمع المدني العالمي” و”المشاركة الاحتجاجية المضاعفة” حين ضاعفت من حجم الصدى الذي تعرفه الفضاءات الاحتجاجية، فحولت التظاهرات “المحلية” إلى تظاهرات عالمية، تصل أخبارها وتفاصيلها إلى وكالات الأنباء في سرعة البرق صوتا وصورة بفعل الثورة الجذرية التي عرفها مفهوم “الإعلام” و”التغطية”،مع تجاوز عمل القنوات الإخبارية التقليدية التي تتحكم فيها “السلطة” وتوجهها لعمليات غسيل الأدمغة.. لقد أصبح اليوم بالإمكان حشد تأييد عالمي على موقف سياسي أو إدانة دولية من خلال عرائض إلكترونية يشارك فيها بشر من شتى بقاع الأرض على تعسف سياسي حصل في فضاء سياسي محلي محدد…إنه تحول بالفعل في مفهوم “السياسة” ذاته إذ أصبح عابرا للحدود وللجنسيات والثقافات وللخطوط الجيوسياسية..

         في هذا العمل العلمي الجاد سيجد القارئ ثمرة جهد تحليلي مشكور بذله الباحث منير الجوري، بذله غير بعيد عن فضاءات المطالبة بالحقوق التي مارس فيها الباحث نضالا آخر ميدانيا إلى جانب نضاله العلمي والاكاديمي، جهد علمي  من أجل تخليص مفهوم الاحتجاج والفضاء الاحتجاجي والخطاب الاحتجاجي من الرواسب التقليدية السلبية، ليجعل منها مفاهيم “حية” وأدوات للتحليل تمتلك الكفاية  المطلوبة لتفسير الحراك العربي في الشارع، ومنه حراك 20 فبراير في المغرب..     

في الختام أسأل الله تعالى أن يجازي خيرا الباحث على ما بذله في سبيل إضاءة هذا العمل، وأرجو الله تعالى أن يجعله في ميزان حسناته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق