المقالات

الحوار الحضاري وموجباته (محمد رفيع)

مقدمة:

يشكل الحوار خاصية من خصائص الإنسان الحضارية، يبرهن من خلاله على قدرته على التواصل مع غيره من بني جنسه وغيرهم من مفردات ومكونات هذا الكون، أهله لهذا الحوار ما حباه الله به دون غيره من المخلوقات من القدرة على التفكير ومهارة البيان، بالإضافة إلى ما جبل عليه أصالة من حب الإفضاء بأفكاره إلى الآخرين، وحاجته إلى الاجتماع بغيره، وافتقاره في تحقيق مصالحه وتلبية حاجياته إلى مساعدة آخرين.

فالاجتماع البشري بطبيعة ما عليه من التنوع في الأفكار والمواقف والاختلاف في الإدراك والنظر، والتباين في المصالح والأولويات والرغبات يقتضي اعتماد الحوار خيارا حضاريا لازما لتدبير العلاقات المتنوعة داخل المجتمعات البشرية، وتنمية علاقات التواصل، لدرء النزاعات ودفع الخصومات المفضية للتقاتل عند غياب الحوار.

فما المقصود بالحوار الحضاري في هذه الورقة، وما موجبات القول بالحوار الحضاري؟ وما شروط الحوار الجاد المنتج؟

تلك أسئلة منهجية أحاول الإجابة عنها في هذه الورقة من خلال المحاور الثلاثة:

المحور الأول: مفهوم الحوار

يرى الراغب الأصفهاني أن المعنى اللغوي الأصيل للفظة الحوار اشتق من:” حور الحور التردد إما بالذات وإما بالفكر”[1]، والمحاورة والحوار المرادة في الكلام ومنه التحاور[2]، وحاورته راجعته الكلام[3]، وتحاوروا تراجعوا الكلام، والتحاور التجاوب[4].

وفي القرآن الكريم وردت مادة الحوار في ثلاثة مواضع: اثنان منها بصيغة الفعل في قوله تعالى: ] فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا [[5]، وقوله سبحانه: ] قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب [[6]، والثالث بصيغة المصدر، كما في قوله تعالى: ] والله يسمع تحاوركما [ [7].

وفي التداول المعاصر نجد مصطلح الحوار في استعمالاته يستوعب كل أنواع وأساليب التخاطب سواء كانت منبعثة من خلاف بين المتحاورين أو عن غير خلاف، لأنها إنما تعني المجاوبة والمراجعة في المسألة موضوع التخاطب[8]، فقد عرفه طه عبد الرحمن بقوله: “كل أساليب وأنواع التخاطب كانت عن خلاف أو وفاق” ولذلك فالحوار أعم من الجدل، خصوصا بعد أن صار للحوار معنى حضاري بعيد عن الصراع، واتسع ليشمل مختلف المجالات.

        وتأسيسا على ما سبق فالحوار في جملته يمثل تفاعلا معرفيا وعاطفيا وسلوكيا يجري بين الأطراف المتحاورة يتم به تبادل الخبرات والمفاهيم والأفكار بينهم، كما أنه المسلك الحضاري الأمثل لبناء الاجتماع الإنساني المتين، وإقامة العمران الحضاري القويم، فكلما شاعت ثقافة الحوار بين أعضاء المجتمع ومؤسساته، واعتمد منهجا لازما في تدبير الاختلاف كلما تماسك المجتمع وقويت بنيته وازداد عطاؤه الحضاري وظهر إبداعه الفكري.

المحور الثاني: موجبات الحوار

        ليس الحوار اختيارا حرا في إدارة القضايا وتدبير الاختلاف قد يلجأ إليه وقد يستغنى عنه، وإنما هو مسلك منهجي لازم واختيار حضاري واجب من وجوه عدة، يمكن إجمالها في خمسة موجبات:

 الموجب الكوني:

        لعل الوعاء الكوني الذي يتفاعل فيه الإنسان مع بني جنسه مؤسس على نظام حواري مطرد ينتظم مختلف مكوناته المتنوعة، فرغم اختلاف آيات الكون الطبيعية غير أنها في تكامل وتواصل وتناغم مستمر تنتفي معها لحظات التصادم، وكأنها في حوار مقعد مضبوط ناجح، مصداقا لقوله تعالى: ” الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور[9]، ويتعين على الإنسان في اجتماعه البشري أن يتناغم مع النظام الكوني ولا يشذ عنه باعتماد الحوار في تدبير قضايا الاجتماع الإنساني.

        كما أن آية الاختلاف الحاصلة وفق الإرادة التكوينية لله تعالى في القدرات والإدراكات البشرية وفي لغاتهم وألوانهم وأعرافهم وثقافاتهم ومذاهبهم، يدعو إلى اعتماد مسلك الحوار من أجل التعارف لا التصادم، فلا يصلح لتدبير التعدد والاختلاف إلا الحوار مسلكا معتمدا.

 الموجب الفطري:

 لقد جبل الإنسان على الحوار دون غيره من المخلوقات بفضل ما حباه الله تعالى من القدرة على الفكر، والتمكن من البيان، مصداقا لقوله تعالى: ” خلق الإنسان علمه البيان “[10]، كما جبل على الرغبة في الإفضاء بأفكاره إلى الآخرين، وهذا ما يجعل الإنسان مدفوعا من داخله الفطري إلى الحوار، ولا عجب أن نجد صورا من الحوار الفطري عند العوام في حديثهم والأطفال في لعبهم، وذلك في حالتي الوفاق والخلاف معا.

 الموجب الشرعي: 

لا شك أن بعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام للمجتمعات البشرية في فترات زمنية متراخية على التوالي بعثة حوارية بين الله تعالى وخلقه من خلال رسالة بينة واضحة تكلف هؤلاء الرسل عليهم السلام بتبليغها بمنهج حواري، دونت أطوار تلك الحوارات وما فيها من أسئلة واعتراضات، وأجوبة وبينات في وحي الله تعالى القرآن، يقرؤها الناس ويتعبدون بها إلى يوم القيامة، ليتيقن الجميع أن الله تعالى لم يختر غير الحوار منهجا في تبليغ مضامين رسالته.

 ولما كان القرآن الكريم آخر تواصل حواري بين الله وخلقه، فقد تولى الله ترتيب مضامين خطابه وصياغة رسالته صياغة حوارية متكاملة من وجوه:

أولها: من حيث تقعيد الحوار وتأسيسه منهجا أصيلا في التواصل، كما في قوله تعالى حين أمر باعتماد أتقن الطرق وألطف الأساليب في مخاطبة المحاور: “وقولوا للناس حسنا “[11]، وقوله سبحانه:” ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم “[12]، وفي قوله تعالى: ” ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن[13]، إلى غيرها من الآيات التي ترسي الحوار على قواعد مكينة وأسس سليمة.

ثانيها: من حيث إن الله تعالى أمن للمخالف المحاور حقه في الوجود، وحقه في الاعتراض وإبداء الرأي، وفي الاستماع لكلامه واعتراضه، فسجل القرآن الكريم اعتراضات الشيطان والمشركين، ومطالبات الكافرين، وشبهات المنافقين، ومناقشات اليهود والنصارى تقرأ إلى يوم القيامة.

ثالثها: من حيث الدعوة إلى اعتماد الحياد الجدلي في الحوار مع المخالف، كما في قوله تعالى: “وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون[14].

رابعها: من حيث بنية الخطاب القرآني القائمة على مبدأ الحوار، ذلك أن مادة قال الحوارية ومشتقاتها مبثوثة بكيفية واسعة في ثنايا الخطاب القرآني مما يقوم شاهدا ماديا على البنية الحوارية للخطاب القرآني، بالإضافة إلى اعتماد منهج الحوار والتواصل في تبليغ مضامين الخطاب القرآني للإنسان ذي الطبيعة الجدلية، مصداقا لقول الله تعالى: ” وكان الإنسان أكثر شيء جدلا[15].

خامسها: من حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمد في دعوته للعالمين على منهج الحوار بكيفية مطردة[16]أسوة بإخوانه الرسل عليهم السلام الذين توالوا على البشرية منذ آدم عليه السلام إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليه، فراسل المخالف وكاتبه وفاوضه وحاوره واستمع لاعتراضاته، وتوصل معه أحيانا إلى عقد معاهدات، وإبرام اتفاقيات.

 الموجب الحضاري:

 مقتضى الاجتماع البشري على تعدد انتماءاتهم العرقية واللغوية واختلاف مذاهبهم ودياناتهم، واختلاف طبائعهم وميولاتهم أن يكون الحوار المنهج المعتمد الأمثل في تدبير الاختلاف، وذلك من أجل تحقيق مصالح متعددة، منها ضمان الاستقرار الاجتماعي والثقافي والسياسي، فيتحول بذلك التعدد إلى الغنى، والاختلاف إلى السعة والثرى فيتمكن المجتمع من الإبداع الثقافي والعطاء الحضاري، فما خربت الأوطان وسفكت دماء الإنسان إلا عند غياب الحوار.

 الموجب العلمي

 لا شك أن الحوار مسلك علمي لبناء أفكار صحيحة والتوصل للآراء السوية وتصحيح وتنقيح المعارف على مستويات: 

 على مستوى البحث العلمي: يمكن منهج الحوار حين يعتمد في البحث عن المعرفة وسط معارف وآراء متعددة ومختلفة من إنتاج معارف الإبداع واكتشاف أفكار الابتكار، فقد أثبتت الدراسات السيكو اجتماعية أن القدرات العقلية للفرد لا يمكنها أن تتطور إلا مع الآخر المختلف أي في ظل التدافع المعرفي والحوار العلمي باعتباره المجال الأفضل للتطور الذهني والمعرفي، وتتعزز نتائج هذه الدراسات بنتائج الأبحاث الميدانية في مجال التربية وعلم النفس التي تؤكد أن التقدم المعرفي وإثراء الفكر لا يحصل إلا إذا وجد الأفراد أنفسهم في وضعيات اختلاف ومواجهة مع أفراد متنوعي المستويات والتوجهات[17].

 وعلى مستوى التدريس: يمكن اعتماد الحوار البيداغوجي في تصريف المحتوى التعليمي من البناء السليم المتين للقدرات لدى المتعلمين، وتحقيق الكفايات، وتكوين الملكات، في حين يتعذر تحقيق تلك الأهداف التعليمية بتجاوز منهج الحوار إلى اعتماد أسلوب الإلقاء والتلقين.

 على مستوى التداول الشفاهي للأفكار، والتواصل العلمي والتفاعل الثقافي فمنهج الحوار هو المسلك المناسب لتبادل المعلومات والخبرات وإغناء الساحة الفكرية والثقافية بمتعدد من الآراء والأفكار.

المحور الثالث: الشروط الإجرائية للحوار المنتج

        لا شك أن قيمة الحوار وجدواه فيما يوصل إليه من نتائج إيجابية ترضي الطرفين، غير أن سير الحوار إلى مطلوبه وتحقيق نتائجه يتوقف على جملة شروط إجرائية من شأنها أن تؤمن الحوار في أطواره ليصل لانتظاراته، من تلك الشروط:

1) التنوع:

من شأن التنوع في الأفكار والتعدد في الآراء والاختلاف في المواقف أن يجعل من الحوار تواصلا فعالا قاصدا لاستثمار رأي ثالث من الرأيين يكون مشتركا بين طرفي الحوار، إن لم يتم ترجيح أحد الرأيين.

2) وحدة الموضوع:

        مما ييسر نجاح الحوار ويتقدم بأطواره أن يتحد موضوع الحوار ويتحرر، ولا يتعدد ولا يتفرع، حتى لا يتيه الحوار في دروب غير مطلوبة، فيضيع الجهد والزمن في غير المقصود.

3) وحدة مرجعية الاحتكام:

        إن الحوار الجاد المفيد يتطلب ضرورة وجود مرجعية مشتركة يتحاكم إليها أطراف الحوار ويرجعون إليها في النفي والإثبات، وتتحد هذه المرجعية حسب المشترك بين الأطراف، ونجد هذا المبدأ مطردا في كتاب الله تعالى في حواره مع جميع أصناف المخالفين، حيث حاكمهم في محاورتهم لما سلموا به من مرجعية فطرية كما في قوله تعالى: ” ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله “[18] أو عقلية كما في قوله تعالى: ” لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا “[19]، أو كونية، كما في قوله تعالى: ” أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت “[20]، أو تاريخية، كما في قوله تعالى: “ لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون “[21].

4) الحرية والاستقلال في القول:

        لا يمكن للحوار أن ينتج ويثمر نتائجه إلا في أجواء الحرية بعيدا عن ألون الإكراه والجبر، إذ لا إرادة ولا رأي للمكره كما يقول الفقهاء، فحين يأمن المحاور على نفسه ومذهبه في التعبير عن رأيه، نتوقع للحوار أن ينتج، كما أن الاستقلال في القول شرط مكمل لضمان نجاح الحوار، لأن المقلد لغيره، والمقيد بآراء الآخرين يعجز عن الدخول في الحوار الجاد مع نظيره.

والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين


-[1] المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني بتحقيق السيد نجيب كيلاني ص 134.

[2]– نفسه ص 135.

-[3] أساس البلاغة ص 96.

[4]– ينظر القاموس المحيط 2/69.

[5]– سورة الكهف من الآية 34.

[6]– الكهف من الآية 37.

-[7] المجادلة من الآية 01.

-[8] ينظر آفاق مستقبل الحوار بين المسلمين والغرب ص 09 لعبد العزيز التو يجري في منشورات الإسيسكو: أدب الاختلاف في الإسلام.

[9] – الملك الآية 3.

[10] – الرحمن، الآيتان 3و4.

[11] – البقرة، من الآية 83.

[12] – فصلت من الآية 34.

[13] – النحل من الآية 125.

[14] – سبأ من الآية 24.

[15] – الكهف الآية 54.

[16] – ينظر رفيع محماد، الجدل والمناظرة أصول وضوابط، بيروت: دار ابن حزم، ط1/2009م، ص18 فما بعدها.

[17] – ينظر محماد رفيع، المرجع السابق ص15.

[18] – لقمان الآية 25.

[19] – مريم الآية 42

[20] – الغاشية الآيات 17-20

[21] – آل عمران الآية 65.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق