المقالات

التفكير الفقهي في التاريخ المعاصر: الطاهر بن عاشور أنموذجًا(يوسف محمد بناصر)_2_

2ـ من مظاهر الاجتهاد لدى ابن عاشور:

لقد اجتهد الشيخ الطاهر بن عاشور من أجل تتبع ما سمحت به قريحته من النكت العلمية والعبر الأخلاقية والتربوية فيما يكتبه، وهو ما أكده في تفسيره وفي كتابه “كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ: “فالموطأ وإن كان قد شرح بشروح جمة، قد بقيت في خلاله نكت مهمة، لم تَغُصْ على دُرَرِها الأذهانُ، وهي إذا لاح شعاعها لا يهون إهمالها”[15]، كما أنّه لم يخف ما يواجهه من تحدّ في مسيرته العلمية من أجل الحصول على المعرفة، فقد اعترضته أوهام وشكوك دفعت به إلى الحيرة، وتبادرت إليه أسئلة حاصرته، كقوله: “أمر التيمم في الإسلام دقيق، ولقد تحيرت زمانًا في تطلب الحكمة التي لأجلها شُرّع التيمم”[16] فبقيت تلك الأسئلة عالقة مدة من الزمن، إلى أن أدرك المقصد وتوصل إلى الحكمة، فقال: “ولأنّ تعذر الوسيلة لا ينبغي أن يجرّ إلى تعطيل المقصد، فكان وجوب الصلاة مع تعذر الطهارة شرعًا واضحًا، وكان تعويض الطهارة المائية بطهارة مائية أخرى متعذرًا، فكأن النظر يقتضي أن تسقط الطهارة عن عادم الماء والعاجز”[17]، وأيضا قوله: “فكان تعويض الطهارة المائية بغير مائية شرعًا غريبًا خفيَّ الحكمة، و كنت زمانًا أحسبه من متشابه الشريعة، ولكني لم ألبث أن ألهمت إلى حكمة دقيقة فيه لم تبدُ لأحد فيما رأيت، تلك هي التنبيه على عظم قدر الصلاة، وتأكّد وجوب التطهر لها، بأن أرادت الشريعة إقامة عمل مقام الطهارة، حتى لا يشعر المسلم أنّه يناجي ربه دون تطهر، وحتى لا تفوته نية التطهر للصلاة، فلا يفوته ذلك المعنى المنتقل به من طهارة الظاهر إلى طهارة الباطن، وحتى لا يظن أنّ أمر الطهارة هين، وفي إقامة ذلك العمل مقام الطهارة تذكير مستمر بها”.[18]

كانت همّته الإصلاحية وقدرته العلمية وصبره المستمر عالية جعلته، في الأخير، لا يستسلم ولا يكلّ، فكان بحق رمزًا من رموز الإصلاح الحديث في العالم العربي وفي تونس بلا منازع، فاستحق اللقب الذي أطلقه عليه الشيخ المصلح محمد عبده بتسميته: “سفير الدعوة بجامع الزيتونة”. هذه القلعة العلمية التي تحمّلَ أعباء إصلاحها وإخراجها على أجمل حُلّة لتنافس بقية المدارس والمعاهد العلمية في الوطن العربي، وتزاحم الجامعات الغربية في إشاعة المعرفة العلمية والمعارف المختلفة. فبحكم أنّه خرّيج ذلك الصرح العلمي وخبر ما فيه من إشكالات تنظيمية ومنهجية، فقد بذل جهده المستطاع من أجل تجاوز كل ما يمكن أن يعيق مسيرة الإصلاح في تونس، خصوصًا أنّ جامعة الزيتونة سيكون لها الدور الرئيس في توعية رواد حركة الاستقلال وتأطيرهم فيما بعد، فيقول الشيخ ابن عاشور رحمه الله: “غير أنّي لم أدع فرصة إلا سعيت إلى إصلاح التعليم فيها بما ينطبق على كثير مما ضمنته هذا الكتاب [يعني أليس الصبح بقريب] فاستتب العمل بكثير من ذلك وبقي كثير بحسب ما سمحت به الظروف”.[19] لقد كان الأستاذ الطاهر بن عاشور واعيًا بكون مهمته لا يمكن اختزالها في مهمة الفقيه المفتي المعتزل للناس في زاوية ما، والذي يكتفي بتتبع القضايا النظرية ليمنحها حكمًا فقهيًّا، لأنّ شخصيته النشيطة لا تخول له أن يشاهد اختلالات الواقع دون أن يتدخل لإصلاحها، وهو المتأثر بالفكر الإصلاحي المصري بعدما التقى برائد من رواده الشيخ محمد عبده بتونس سنة 1331هـ[20]، الذي حفزه لأن يقرأ القرآن قراءة متدبر ومصلح، لأنّ الكتاب الكريم أنزل للقيام على توجيه الإنسانية نحو الأمان والاستقرار والرقي إذا صادف عقلاً متدبرًا، ولم ينزل ليحافظ على الركود والتخلف والقمع، كما عبّر عن ذلك بقوله: “فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية والاجتماعية والعمرانية”،[21] وهذه المهمّة يسمها بأنّها علم، فيقول: “علم المعاملات ويعبر عنه الحكماء بالسياسة المدنية”[22]، أمّا الإصلاح في المجتمع والعالم الإسلامي، وتأسيس العمران وحفظ النظام والأمن ورعاية المصالح الكلية والجامعة، فهو مقصد علم العمران وعلم الاجتماع[23]. ورغم جهوده المنافحة عن الثقافة الإسلامية وتأسيس نظام متين ممنهج؛ إلا أنّه يعترف مرارًا بأنّه يواجه تحديات قد تكون أكبر من قوته، خصوصًا مع ما تراكم من سلبيات في المجتمع والعقول، بقوله: “وأعلم أن نور عقلي هو دون إضاءة هاته المجاهل التي صفدت عليها منافذ الأنوار والأهوية الخالصة، فامتلأت بالحوامض الرديئة منذ أزمان”،[24] ولكنه لا يستسلم ويعد جهده واجبًا مقدسًا يجب عليه مواصلته: “إذن كان واجبًا علينا خدمةً للملة وتهيئةً للنشأة العلمية التي تزين مستقبلنا وتمجد ماضينا، أن ندخل تلك المجاهل نرفع بإحدى يدينا مشاعل النور ونقطع بالأخرى ما يمانع من حجرات العثور”.[25] ومن المعلوم أنّ الشيخ ابن عاشور عاش محنة مع التيار التقليدي خصوصًا بعدما طرح رؤيته الإصلاحية للتعليم، فعدّها البعض “ضربًا من الكلام إن لم يكن أضغاث أحلام”[26]. وانقسمت البلاد إلى منحاز إليه ومناوئ له، فعلى سبيل المثال، انحازت جريدة “النهضة” للشيخ الطاهر بن عاشور وبرنامجه التجديدي وأيّده الدستوريون والإصلاحيون، بينما ساندت جريدة “الزهرة” وجهات النظر التي عبّر عنها المشايخ المحافظون وبعض الشخصيّات العامة.[27]

لقد حاول الأستاذ الطاهر بن عاشور أن يتوقف عند أغلب المفاهيم المستوردة إلى السياق الثقافي الإسلامي، ليبحث فيها بحثًا دقيقًا، فإن اكتشف أضرارها نقدها ونقضها، وإن انكشفت عن منفعة فيها وخيريّة للأمّة، عزّزها وجلاّها، فكان هذا بحق يكشف عن وعيه بأنّ عمل العقل الفقهي لا يمكن أن يجزأ عن عمل المفكّر، حتى إن عرف الفقيه قصوره في المجال الفكري انبرى المفكر لسدّ الثغرة ودفع الضرر، وهو إدراك منه أنّ جهد الفقيه نسبي، وإن أجاب على المسائل الفقهية والنوازل المحدثة، لأنّ مشكلات الفكر أعم وأعقد وأخطر على عقل الأمة ومصيرها، لذلك اجتمعت فيه عقلية الفقيه وعقليّة المفكّر.

كما ينوه الدكتور طه جابر العلواني بإضافات الشيخ ابن عاشور بقوله: “قد يكون من أهم ما امتاز به جهد ابن عاشور هو العمل على تقديم منهج للكشف عن المقاصد، جعله يضيف مقصديْن هامين جدًّا وهما مقصد المساواة ومقصد الحرية، وتلك خطوة اجتهادية هامة”.[28] فإنّ التنويه بالكشف عن مقصديْن جديديْن، كان نتيجة الظرف التاريخي الذي اصطبغ بالاستعمار وظلمه، ثم وجود جاليات أجنبية بالبلاد الإسلامية متمتعة ومستقوية على السكان الأصليين، ولا ننسى التذكير بما كانت عليه الأنظمة العربية من تخلّف في شكل الحكم وتوزيع السلط، والتي لم تمنح الكرامة للمحكومين ولم تحافظ على حقّهم في عيش حياة كريمة. ولولا شخصية الشيخ محمد الطاهر بن عاشور المنفتحة على المتغيرات الجديدة بمتطلبات المدنية واستيعابه لمشاكل محيطه، لما ألحق الحرية والمساواة بالمقاصد.

فالحريّة أساس المسؤولية وما جاء الدين الإسلامي إلاّ ليحرّر الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد. وهو ما عبّر عنه الشيخ بقوله: “فالحرية حلية الإنسان وزينة المدنية، فيها تنمي القوى وتنطلق المواهب، وبصوبها تنبت فضائل الصدق والشجاعة والنصيحة بصراحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتلاقح الأفكار وترق أفنان العلوم”.[29] ومحاولته التأسيسية لحرية التفكير لم تكن من فراغ، إذا علمنا القمع الذي يواجه به الاستعمار حركات التحرير، وأيضا بعض مواقف الفقهاء المحافظة من بعض الآراء التحررية، فيقول: “وفيما عدا ما هو معلوم من الدين بالضرورة من الاعتقادات فالمسلم مخير في اعتقاد ما شاء منه إلا أنّه في مراتب الصواب والخطأ”.[30] فهذه المواقف تبين مدى تأثره بالحراك الفكري الغربي، الذي وصل إلى قمة في نقاشه لضرورة تحرر المجتمع سياسيًّا وفكريًّا وأخلاقيًّا.

كما أنّ ابن عاشور في كتابه: “أصول النظام الاجتماعي في الإسلام” قرر أن يبحث عن قيم التسامح التي تأسس عليها الإسلام في علاقته مع الغير ومع الذات أوّلا، فيقول: “إنّ التسامح في الإسلام وليد إصلاح التفكير ومكارم الأخلاق اللذين هما من أصول النظام الاجتماعي”[31]. وانتقد الكيفيّة التي يتعاطى بها بعض الفقهاء مع التفسير، بانغلاقهم على الطريقة الكلاسيكية واستبعادهم للعلوم الإنسانية الأخرى، وهو الذهن المنفتح على مختلف المعارف، فيقول: “فالضعف فيها-أي العلوم الإنسانية- لِظنّ بعض الفقهاء أنّها بعيدة عن القرآن، وهي ضرورية لمعرفة عظمته العمرانية، مثل التاريخ، وفلسفة العمران، والأديان والسياسة.[32]

لقد انبرى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور لعملية تثويرية للعلوم والمعارف الإسلامية، كما أنّه شارك في التأسيس لوعي جديد بضرورة التحول في طريقة بحث القضايا والمسائل الفقهية والفكرية، كما كان مثال الشخصية الفذة التي استوعبت قيم الآخر، وعملت على ترسيخ كلّ المفاهيم الوافدة على المحيط الإسلامي بشكل صحيح وراشد، دون تخوّف أو ارتياب، ممّا كشف عن قدرته في تجاوز المعوقات الذاتية؛ التي تحاصر تحرّر الإنسان المسلم، ليتجاوز وضعية التخلف والانحطاط التي عمّرت دهرًا من الزمن، فعبّر بذلك عن التناغم والانسجام مع روح العصر، الذي يجب أن يتخلّق به شخص العالم الفقيه، بالانخراط في التحوّل الحضاري بشكل واع وفاعل ودون استلاب، كما أنّه تعبير عن سعة أفقه وحسن تفكيره.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق