المقالات

الائتمانية” نظريةً لحل المعضلات الأخلاقية العلمية:‬‎(محمد أوريا)_5_

أخلاقيات علم الأحياء: ”الموت الرحيم“ نموذجًا‬‎

‮ما يسمى ”الموت الرحيم“ موضوع جدل منذ العصور القديمة، وكان يصنَّف في خانة الانتحار الذي كان مجرد التفكير فيه يعدُّ إهانة لألوهية النفس من طرف الفيثاغوريين مثلاً (‭Ekanga 2013, 29‬). أما الأبيقوريون فقد أدركوا من جانبهم أهمية الحرية الفردية، لكنهم ظلوا يشكون في أن يكون هذا الفعل عقلانياً (‭Gorsuch 2006, 25‬). وفي وقت لاحق، استخدم الرواقيون مصطلح ”أوتانازيا“ بمعنى الموت بشكل جيد، أي الانتحار في نهاية المطاف (‭Ricot 2010, 47‬). من جهة أخرى، رفضت اليهودية القديمة أي شكل من أشكال الانتحار أو القتل الرحيم، ونُظر إليه على أنه عصيان وجحود ليهوه. أما بالنسبة للمنظور المسيحي، فقد تشكل مع القديس أوغسطين الذي أكّد أنه لا يمكن أبداً قتل إنسان آخر، حتى لو أراد هو ذلك. وفي العصور الوسطى، أدان العديد من المفكرين كالقديس توما الإكويني وأبيلار ودانتي العملَ الانتحاري، واعتُبِر قتلُ المرء لنفسه رجساً (‭Dowbiggin 2005, 12–16‬). ولكن منذ عصر النهضة، أدى تقدم العلوم إلى فهم آخر للجسد الذي بات يُنظَر إليه على أنه آلة وليس سرّاً إلهياً (‭McDougall and Gorman 2008, 4–5‬)، وبلغ الأمر بفيلسوف كفرانسيس بيكون أن يدعم علناً فعل القتل الرحيم، ويعتبره ”موتًا عذباً محاطاً بالرعاية“ (‭Aumonier et al 2001, 36–37‬)، وهو التوجُّه نفسه الذي نجده الآن عند المدافعين عن المساعدة الطبية على الموت. وقد ساهمت فلسفة الأنوار والظروف التي أتاحتها العلمانية والتقدم في العلوم إلى تبني قيم تعطي الأولوية للعلم على الدين وتعطي الطبيب ثقة أكبر ومكانة أحسن. وبفضل ما عرفته التكنولوجيا والطب من تطور أدى إلى شيخوخة أطول (زيادة الأعمار)، فإن المعضلة الأخلاقية حول القتل الرحيم أصبحت اليوم فائقة الأهمية مقارنة بما كانت عليه من قبل. وفي هذا السياق، يمكن استيعاب ما قامت به بلدان مثل بلجيكا وسويسرا وهولندا، ولوكسمبورج والمملكة المتحدة وكندا وكذلك بعض الولايات في أستراليا من إصدار قوانين تسمح بأشكال معينة من القتل الرحيم بناءً على طلب المريض ووفقاً لمعايير مختلفة.‭22‬ ويمتد النقاش حول القتل الرحيم الآن إلى العالم الغربي بأكمله تقريبًا، ويترافق التقدم الطبي مع تجديد أهمية بعض القضايا الأخلاقية المحيطة بنهاية (أو إنهاء) الحياة.‭23‬‬‎

‮ولكن إلى أي حد يمكن القبول من الناحية الأخلاقية بقانون المساعدة الطبية على الموت للمرضى المشرفين عليه وكذلك الأشخاص المصابين بالخرف؟24 سنحاول إيضاح كيف يمكن للنظريات الأخلاقية الكبرى أن تجيب على هذا السؤال، وما الإجابة التي تقدمها الفلسفة الائتمانية. يتصل الحكم على ”الموت الرحيم“ بأربع توجهات أخلاقية هي: أخلاق المنفعة عند بنتام وجون استوارت مل، وأخلاق الواجب عند كانط، وأخلاق الفضيلة عند أرسطو، والأخلاق البيولوجية. وسنوضح منطق حكم كل توجه في مثال الموت الرحيم والتعليل الذي يقدمه لحكمه قبل أن نتعرض للفلسفة الائتمانية والحل الذي تقدمه لهذه المعضلة.‬‎

‮‮3.1‬‎‬‎ ‮العدل في الحكم على أخلاقية ”الموت الرحيم“‬‎

‮لا ترى أخلاق المنفعة مشكلة في تسهيل موت المرضى الميؤوس من شفائهم والمصابين بالخرف؛ لأن رفاهية الإنسان ونوعية الحياة هي معيار أخلاقية الفعل، وضمان سعادة أكبر عدد ممكن من الأفراد يتم عبر تقييم عواقب الخيارات المختلفة المتاحة.‬‎

‮ففي مثال الموت الرحيم، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار عناصر مختلفة تؤثر في مستوى رفاهية المجتمع منها: التكاليف العالية التي تنفقها الدولة على هذه؛ فوَفقاً لمنظمة الصحة العالمية فإن التكاليف الإجمالية لحالات الخرف وصلت في العام ‭2015‬ إلى مبلغ ‭818‬ مليار دولار أمريكي، أو ‭1‬ ٪ من الناتج الإجمالي العالمي. وتختلف التكلفة الإجمالية كنسبة مئوية من الناتج الإجمالي لتصل إلى ‭1‬.‭4‬ ٪ في البلدان ذات الدخل المرتفع (‭World Health Organization 2018‬). وهذا يمثل مبالغ كبيرة يجري ضخّها في قِطاع الصحة من دون أن يستفيد من العلاج المرضى الذين ما زال هناك أمل في شفائهم. يُضاف إلى ذلك أنّ البلدان الغربية على وجه الخصوص تواجه صدمة ديموغرافية حتمية بسبب ارتفاع نسبة المعمِّرين؛ ممّا يجعل الإنفاق على الصحة يتزايد باستمرار. ويمكن في هذه الحالات رصد الضغوط الجسدية والنفسية والاقتصادية على الأسر ومقدمي الرعاية أنفسهم من خلال ما جاء في تقرير منظمة الصحة العالمية ‭(World Health Organization 2018)‬؛ فمثل هؤلاء المرضى يحتاجون إلى مساعدة إلى جانب التطبيب قد تستغرق سنوات عديدة قبل وفاة الشخص المصاب؛ أي أن المقاربة النفعية تشرِّع أخلاقياً لوضع قانون ينظِّم ”الموت الرحيم“ في مثل هذه الحالات على الأقل‭.‬‬‎

‮أما أخلاق الواجب التي تمثل ردّا على نفعية ميل، فتركز على حقوق الأفراد وواجباتهم، وفكرتها الأساسية أن القيمة الأخلاقية للأفعال أو القرارات تقوم على الالتزامات المتبادلة واحترام حقوق الآخرين. ويفرّق كانط بين واجب سلبي (كامل وصارم)، وهو الواجب المطلق الذي ينطبق على الجميع وفي كلّ الحالات ويكون دائمًا بصيغة الحظر (لا تقتل، لا تسرق، لا تكذب، الخ.)، وواجب إيجابي (غير كامل، ومُوسّع)، وهو واجب التدخل الذي يتطلب مشاركة الآخرين (كواجب الرحمة والمساعدة والتعاطف، الخ). وفي حالة التعارض بين الواجب السلبي والواجب الإيجابي يتم تفضيل الأول؛ لأنه الواجب المطلق.25‬‎

‮ومن المهم هنا استحضار قسم أبقراط؛ لأنه يتماشى مع النهج الكانطي، وقد احتفظ بقيمة رمزية على مر العصور، فهو يطالب الأطباء خاصة بعدم قتل المريض. ففي إحدى صيغه القديمة يُقسم أبقراط: ”… ، وأقصد في جميع التدابير—بقدر طاقتي—منفعة المرضى، وأما الأشياء التي تُضر بهم وتدني منهم بالجور عليهم فأمنع منها بحسب رأيي، ولا أعطي إذا طُلب مني دواء قتّال، ولا أشير أيضاً بمثل هذه المشورة …“ (ابن أبي أصيبعة ‭1996‬، ‭205‬).26 فأخلاق الواجب تحول دون تمرير قانون يسمح بالموت الرحيم.‬‎

‮‮3.2‬‎‬‎ ‮الخير في الحكم على أخلاقية ”الموت الرحيم“‬‎

‮فيما يخص أخلاق الفضيلة، فقد اعتبر فلاسفة اليونان الإنسان جزءًا من الطبيعة، وأن الفضيلة تكمن في العيش في انسجام مع الطبيعة، ومن ثم تُعرّف الطبيعة على أنها الكون (‭cosmos‬)، وهو كلّ منظَّمٌ يشغل كل فرد مكانًا فيه ويجب عليه أن يجده. في هذا الإطار، يعتقد أرسطو أن الطبيعة ”لا تفعل شيئًا عبثًا“ ‭(Aristote 2014, 1038, 1633)‬؛ فهي تعمل دائماً بذكاء في السعي وراء الغايات، ويبقى الخير هدفاً نهائياً لها بالرغم من وجود حالات طارئة قد لا يتحقق الخير فيها دائمًا، ويرى أرسطو أنّه يجب على الإنسان أن يدرك جوهره المزدوج المتمثل في أن الوجود الإنساني موجَّه باتجاهين متكاملين يحدِّدهما العقل: الحياة التأملية من خلال البحث عن المعرفة، والحياة العملية (الأخلاقية) من خلال البحث عن العدل في علاقته بالآخرين. في الحياة العملية—وهي مجال الأخلاق—يَنشد الإنسان التصرف الأمثل والممكن؛ استنادًا إلى الوضع المحدد الذي يواجهه‭.‬ فالتصرف الأخلاقي هو التصرف وفقاً للغايات التي تحددها الطبيعة، ولكن التحدي في هذه الحالة يتمثل في تكييف المبدأ المطلق مع الحالة الخاصة التي نواجهها‭.‬‬‎

‮لم ينشغل الفكر اليوناني بالفرد على عكس التصور الكانطي، ولكن كيف يمكن لأخلاق الفضيلة أن تحكم على حالة محددة مثل: هل يجب أن نتوقف عن الاعتناء بمريض لا أمل في علاجه؟ وفق التصور الأرسطي، إذا ما قررنا التوقف عن رعاية هذا المريض سنكون قد تركنا الطبيعة تفعل فعلها، وهي لا تفعل شيئًا عبثًا، ومن ثم فهي التي تضع حداً لهذه الحياة تفادياً لمعاناة لا لزوم لها ناتجة عن إصرار غير معقول على مواصلة العلاج‭.‬ فإذا قمنا بذلك، فإنّنا لا ننتهك قدسية الحياة ولا ننهتك مبدأ حظر القتل؛ فكلّ ما قام به المُعتني في هذه الحالة هو أنّه ترك الطبيعة تُنجز عملها حين توقف عن تقديم الرعاية الصحية التي لا جدوى من ورائها.‬‎

‮إنّ الأنواع الثلاثة السابقة من الأخلاق: المنفعة والواجب والفضيلة هي نتاج مدارس فكرية تاريخية لم تواجه معضلات أخلاقية كهذه، ولكن يتم اللجوء إلى مفاهيم مبتكرة داخل كل مدرسة لاجتراح حلول لمعضلات أخلاقية حالية، وربما تبدو هذه النظريات غير ملائمة أو غير وافية لحل بعض الإشكالات المعاصرة، ولذلك من المهم الاستعانة بنهج رابع هو الأخلاق البيولوجية، قبل معرفة الإجابة التي يمكن للفلسفة الائتمانية أن تقدمها في هذا الموضوع.‬‎

‬‎

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق