المقالات

الإلحاد: هل هو موقف عقلي أم مأزق نفسي؟ (إبراهيم الدويري)_3_

الإنسان الكائن المتدين:

في بحوث دارسي سلوكيات الملحدين أنهم يتسمون بسمات طابعها العنف والقلق والخوف، وذلك يرجعه العلماء إلى محاولة منكري وجود الإله مغالبة فطرة الإيمان المتأصلة في الإنسان منذ الأزل. تقرر الأديان أن الإيمان مركوز في كل نفس بشرية، وأن الأصل في الإنسان أن يكون مؤمنًا، وإنما ينحرف عن التوحيد أو يحاول إنكار خالقه بسبب تعرضه لتنشئة منحرفة تحيد به عن طريق الجادة. ويتطرق العلماء المسلمون لهذا الأمر في موضعين. الأول: قول الله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (138 البقرة).6“، والثاني قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في الصحيحين: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه”7

ما ذهب إليه علماء الإسلام من تأصل فطرة الإيمان في النفس البشرية أكده الباحثون المعاصرون المتعمقون في دراسة الأديان شرقًا وغربًا؛ فالباحث السوري في تاريخ الأديان فراس السواح يرى أن تعريف الإنسان المميز له عن سائر الكائنات بعد كل الكشوفات الحديثة هو أنه “الكائن المتدين”، وذلك لكون ظاهرة التدين من “أهم الظواهر المميزة للجماعات البشرية منذ بدايات تكونها”8.

وإلى مثل تعريف السواح للإنسان ذهبت عالمة الأديان كارين آرمسترونج، التي كشفت لها دراساتها لتاريخ الدين “أن الكائنات البشرية هي حيوانات روحانية”، وأن الجدل ينبغي أن يتحول من تعريف الإنسان بالعاقل إلى تعريفه بالمتدين. وسوغت ذلك بأن الدين لم يكن “مرتبطًا بطبيعة دنيوية بائدة على يد ملوك وكهنة متلاعبين بل كان أمرًا طبيعيًا للبشرية”، بينما “نزعتنا الدنيوية الراهنة هي تجربة جديدة كليًا، ولا سابق لها في تاريخ البشرية”9

ضوضاء القطط ودين ضد الدين:

وبسبب البعد الديني المركوز في كيان الإنسان سمى المفكر المشهور علي شريعتي (1933- 1977م) كتابه بـ”دين ضد الدين”. وقد اختار هذا الاسم لأن “المجتمعات البشرية في جميع مراحلها لم تخل من دين أبدًا، أي أن التاريخ لم يحدثنا عن مجتمع عاش بدون دين، في أي مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي، وفي أي نقطة على وجه الأرض”10، فهو يرى أن الصراعات الدينية عبر التاريخ لم تقع بين أهل دين وملحدين، وإنما وقعت بين أهل دين ودين، ودليل ذلك أن “الأنبياء لم يأتوا ليدعو الناس إلى أصل التدين، والشعور الديني والاعتقاد بالغيب والإيمان بالله، أو الآلهة كان سائدًا في جميع الأقوام والمجتمعات التاريخية”11

لاحظ علي شريعتي في دراسته للمجتمعات وعلاقتها بالأديان عبر مراحل التاريخ المختلفة أن “الفئات الملحدة” لم تتحول “إلى طبقة أو فئة اجتماعية معتد بها”12، وحتى في قرن الإيهام بازدهار الإلحاد المعاصر أقرّ كبير الملاحدة الجدد ريتشارد دوكنز بأن غاية ما يطمح له الملحدون أن يحاكوا القطط في الضوضاء والإزعاج فحسب. يقول دوكنز: “إذا كانت القطط (يقصد الملاحدة) لم تمثل قطيعًا بعد فإن أعدادًا معقولة منها تستطيع أن تصدر ضوضاء مزعجة لا يمكن تجاهلها”13، وهذه الحقيقة أثبتها أهم مركز بحثي معني برصد التحولات الدينية وعلاقات الشعوب بالأديان، أقصد “مركز بيو للأبحاث” الذي أوضح في نتائج دراسة نشرت في 2017 أن أكثر من تسعين في المائة من الأمريكيين يؤمنون بالإله، بينما الذين لا يؤمنون إيمانًا ماديًا بعدم وجود خالق أو قوة عليًا، لا يصلون في الشعب الأمريكي للعشرة في المائة. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق