الترامبية وقمع مؤيدي فلسطين بالذكاء الاصطناعي في أمريكا(محمد الناسك)_1_
مقدمة:
في مستهل شهر ديسمبر/كانون الأول 2024، نشر الباحث تعليقًا عن “مشروع أستير” وأهدافه المعلنة، وعلى رأسها إسكات الأصوات المؤيدة للقضية الفلسطينية في الولايات المتحدة الأميركية وفي مقدمتها طلبة الجامعات.
وها قد عادت الحركة الطلابية من أجل فلسطين إلى الأخبار مرة أخرى بعد اعتقال إدارة الهجرة والجمارك في الولايات المتحدة الطالب محمود خليل، أحد قادة الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين في جامعة كولومبيا. ويبدو أن إدارة ترامب تفي بوعدها بملاحقة الطلاب الأجانب الذين يشاركون في الحركة الطلابية من أجل فلسطين إعمالًا لبنود المشروع المذكور. وقد أصدر ترامب بالفعل العديد من الأوامر التنفيذية في إطار هجومه المكارثي على الجامعات(1).
تتمثل رؤية المشروع في تنظيم وتوجيه جميع الشركاء الراغبين والقادرين في جهد منسق يوظف كل الموارد المتاحة لمكافحة آفة معاداة السامية في الولايات المتحدة. وعبَّر القائمون على المشروع عن أملهم في أن يمثل هذا الجهد فرصة للشراكة بين القطاعين، العام والخاص، عندما تصل إلى البيت الأبيض إدارة راغبة في ذلك. وها قد جاءت إلى البيت الأبيض إدارة راغبة في ذلك وأكثر. فلم يمض على وجودها به أسابيع حتى انبرى رئيسها بنفسه لتطبيق ما جاء في “مشروع أستير” بحذافيره، وجعله في مصاف القضايا الملحَّة والمباهاة بإعماله، وبسخرية. وقد انخرط أعضاء أساسيون في إدارة ترامب في هذه الحرب، ومنهم وزير خارجيته، ماركو روبيو. وهذا يعني وجود فرصة جيدة لأن يصبح ما ورد في وثيقة المشروع المكونة من 33 صفحة سياسة فيدرالية في عهد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب(2).
منذ بدء طوفان الأقصى، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تلاه من حرب إبادة جماعية على الشعب الفلسطيني، هرع الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية، إلى حشد قواته العسكرية لدعم هذه الحرب. وبموازاة ذلك، سخَّر كل قوته الناعمة عبر المؤسسات الإعلامية، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمؤسسات الرياضية والأكاديمية، لتسويغ الإجرام الإسرائيلي وإرهاب الداعمين لحق الشعب الفلسطيني في التحرر لإسكاتهم واتهامهم التهمة الجاهزة “معاداة السامية”، وهم من مشارب فكرية واجتماعية مختلفة. وقد شكَّل طلاب الجامعات طليعة المتضامنين مع الشعب الفلسطيني والمنددين بجرائم الاحتلال. وبعد النجاح الباهر وغير المسبوق الذي حققه هؤلاء في النَّيْل من صورة إسرائيل في العالم، وفضح سرديتها عن حربها على غزة، وكذلك الأساطير المؤسسة للحركة الصهيونية، انزعجت الأنظمة في الغرب وأنصار إسرائيل خاصة في الولايات المتحدة حيث اللوبي الصهيوني أعلى صوتًا، فرأينا عنقاء المكارثية تنبعث من رمادها على نحو أكثر تطرفًا، بعد أن قرر مناصرو إسرائيل توحيد جهودهم لمواجهة “هامان العصر”، ويقصدون به الحركة الداعمة لفلسطين في الولايات المتحدة الأميركية، كما فعلت “أستير” في فارس القديمة، ويصلبونه على الخشبة التي أعدها لصلب “مُردخاي”. وهكذا وضعوا إطارًا نظريًّا لعملهم سموه “مشروع أستير: إستراتيجية وطنية لمكافحة معاداة السامية. فريق العمل الوطني لمكافحة معاداة السامية” (Project Esther A National Strategy to Combat Antisemitism. National Task Force to Combat Antisemitism) (3)، كما لو أن “مشروع 2025″، المخطط القمعي للولايات المتحدة المكون من 900 صفحة الذي وضعه عشرات الموظفين السياسيين المرتبطين بالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لم يكن كافيًا(4).
إذا ما تذكرنا الحقبة المكارثية، فإن مجرد نفحة من التعاطف مع الفلسطينيين تكفي لوصف منظمة أو فرد بأنه جزء مما يسمى شبكة حماس. وتشير الوثيقة إلى أن أي مجموعة تسعى إلى “تفكيك نسيج المجتمع الأميركي” يمكن ربطها بهذه الشبكة الخيالية؛ ما يجعلها عرضة للتدمير. وعلى هذا الأساس، فإن الحرب ضد المشاعر المعادية لإسرائيل ستكون في الوقت نفسه حربًا ضد أعداء مؤسسة “هيريتيج” (Heritage) (5).
فما الأهداف الحقيقية لترامب من وراء ادعائه محاربة معاداة السامية؟ وإلى أي مدى ستنجح إدارته ومن ورائها مؤسسات اليمين المتطرف، وفي مقدمتها مؤسسة هيريتيج التي تسعى إلى مأسسة “الترامبية”، في تحقيق أهدافها وإسكات كل صوت مؤيد للقضية الفلسطينية؟
مشروع لمأسسة الترامبية ساعدت المؤسسة المذكورة في تشكيل سياسات الرؤساء الجمهوريين عقودًا من الزمن، وهي تركز الآن على” مأسسة الترامبية”. وقد صاغ الخطة المحارِبة لمعاداة السامية تحالف يضم معهد “أميركا أولًا للسياسات”، الذي غالبًا ما يشار إليه على أنه “البيت الأبيض في الانتظار”. ومن المفارقات أن شعار “أميركا أولًا” كان شعارًا يفضِّله بعض المتعاطفين مع النازية قبل الحرب العالمية الثانية، الذين يدينهم “مشروع أستير”.
يزعم المشروع أن دوافع الجماعات المؤيدة للشعب الفلسطيني وفهمها للتاريخ يأتيان “مباشرة من صفحات” البيان الشيوعي. ولم يحدد جماعة “الكو كلوكس كلان”، ولا النازيين الجدد أهدافًا محتملة في مخططه، كما لو أن معاداة السامية غير موجودة بين شبكة المنظمات العنصرية البيضاء التي تدعم “ماغا” (MAGA)(6). إن القصد من هذا الربط هو إشارة إلى أن خطر المناصرين للقضية الفلسطينية، مثل “الخطر الشيوعي” الذي هدَّد الولايات المتحدة قبل سبعين عامًا. فانطلقت حملة محمومة في كل من يشتبه فيه بأنه شيوعي، وذلك بعد أن أعلن جوزيف مكارثي، عضو مجلس الشيوخ الأميركي، في شهر فبراير/شباط 1950، أن لديه قائمة تضم 205 موظفين يعملون في وزارة الخارجية الأميركية يُشتبه بأنهم شيوعيون. ونتج عن تلك الحملة قلب حياة العديد من ضحاياها رأسًا على عقب، ومنهم من اضطر لمغادرة البلاد(7).
يقول جوزيف هاولي(Joseph Howle) ، أستاذ في جامعة كولومبيا شارك في تنظيم أعضاء هيئة التدريس اليهود ضد الحرب واستغلال معاداة السامية: “لقد أراد المهيمنون الصهاينة من اليمين المتطرف أن يجعلوا من اليهود المعادين للصهيونية أو غير الصهاينة أو المنتقدين لإسرائيل خارجين عن القانون. وقد نجحوا هذا العام في جعل الجامعات تجعل ذلك سياسة… والآن يريدون جعله قانونًا فيدراليًّا”. وأضاف هاولي أن “مشروع أستير”، هو مزيد من الاستبداد المتحمِّس من اليمين القومي المسيحي الأميركي، والذي أصبح أكثر رعبًا بسبب الآلاف من الأرواح التي يكلفها في الخارج واستعداد الكثير من المؤسسات اليهودية في هذا البلد للتوقيع عليه.. إنه أمر مخز”(8).
يتعرض الأميركيون الذين يرفعون أصواتهم ضد دعم الولايات المتحدة للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين لقمع واسع النطاق، ولكن “مشروع أستير”، يجسد مسعى يمينيًّا لإضفاء الطابع المؤسسي على القمع من خلال توظيف الحكومة سلاحًا، لاسيما تلك التي يقودها ترامب، الذي حاول أن ينأى بنفسه عن مشروع 2025 بشكل غير مقنع، بالنظر إلى سلسلة العلاقات التي تربطه بمؤلفي المشروع(9).
وكما يقترح مشروع 2025 جدولًا زمنيًّا لا يتجاوز 100 يوم لتفكيك الحكومة الفيدرالية وإعادة بنائها وفقًا لإملاءات اليمين المتطرف، فإن ملحقه “مشروع أستير”، يتصور القضاء على “المشاعر المعادية لإسرائيل”، في الولايات المتحدة في غضون 12 إلى 24 شهرًا فقط. وبنهاية هذه الفترة، وفقًا لمؤسسة “هيريتيج”، لن يوجد المزيد من المظاهرات المؤيدة لفلسطين في الولايات المتحدة، وسيُرحَّل المتعاطفون مع القضية أو يُسجنون أو يُحرمون أو يُطردون، أو يُدفعون للاختباء تحت الأرض. كما سيجري تطهير المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة من أي عناصر متعاطفة مع القضية الفلسطينية(10).
وتطبيقًا لــ”مشروع إستير”، أصدر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أمرًا تنفيذيًّا، في 29 يناير/كانون الثاني 2025، لمكافحة معاداة السامية، يهدف إلى وقف الدعم الأميركي لفلسطين. ونقل بيان صدر قبل توقيع ترامب على الأمر قوله: “إلى جميع الأجانب المقيمين الذين انضموا إلى الاحتجاجات المؤيدة للجهاديين، ننبهكم: بحلول عام 2025، سنعثر عليكم وسنقوم بترحيلكم. سأقوم أيضًا بإلغاء تأشيرات الطلاب لجميع المتعاطفين مع حماس في الحرم الجامعي، والتي أصبحت موبوءة بالتطرف كما لم يحدث من قبل”.
ووفقًا لموقع “أكسيوس” (Axios) الإخباري، فإن وزارة الخارجية الأميركية توسلت بالذكاء الاصطناعي لإلغاء تأشيرات الطلاب الأجانب “الذين يبدو أنهم مؤيدون لحماس”. وقد أطلق وزير الخارجية، ماركو روبيو، حملة في هذا الصدد باسم “القبض والإلغاء” لإلغاء تأشيرات هؤلاء الطلاب. تمثل هذه الحملة، التي تسعى إلى مراجعة عشرات الآلاف من حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لحاملي التأشيرات الطلابية، تصعيدًا كبيرًا في مراقبة الحكومة الأميركية لسلوك المواطنين الأجانب وخطابهم. وتبحث بشكل خاص عن أدلة على التعاطف المزعوم مع “الإرهاب” الذي كشف عنه هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ويعمل المسؤولون على فحص قواعد البيانات الداخلية لمعرفة ما إذا كان أي من حاملي التأشيرات قد اعتُقلوا خلال إدارة بايدن وسُمح لهم بالبقاء في البلاد. كما يدققون أيضًا في التقارير الإخبارية عن المظاهرات الاحتجاجية ضد إسرائيل والدعاوى القضائية للطلاب اليهود التي تسلط الضوء على المواطنين الأجانب الذين يُزعم أنهم شاركوا في نشاط “معادٍ للسامية” دون عواقب. وتعمل وزارة الخارجية مع وزارتي العدل والأمن الداخلي فيما وصفه أحد كبار المسؤولين في الخارجية بأنه “نهج يشمل الحكومة بأكملها والسلطة بأكملها”(11).



