المقالات

من أنتم؟(عز العرب لحكيم بناني)

من أنتم !هذه عبارة نطق بها قبل سنوات قائد لم يكن يعلم الكثير عن أجيال ولدت في زمان غير زمانه وتعيش في ظروف اجتماعية وسياسية مختلفة عن ظروفه. عندما نطق بعبارة “من أنتم !” أظهر للعالم أجمع أنه يواجه جيلا لا يعرفه، جيلا غريبا عنه ولم يكن يدخله يوما في اعتباره. ما هو شعور من سمعوا عبارة “من أنتم !” ويدركون بوضوح أنَّ السؤال ليس صيغة استفهام، بل صيغة تعجُّب، تتوجّه إلى المخاطَب بنبرة التعالي !إذا كان السؤال “! من أنتم ” سؤال تعجب، فالسبب هو أن مختلف المسؤولين لم يتعودوا على واقع أن يأخذ الغرباء الكلمة ويعبّرون عن مطالبهم الاجتماعية خارج المؤسّسات المُعدّة لهذا الغرض.

لا يطرح سؤال “من أنتم !” على كلّ أولئك المعروفين بانتماءاتهم المهنية والنقابية والاجتماعية والحزبية والجمعوية. هؤلاء معروفون! كيف ينظر المجتمع إلى أولئك الذين تعذّر عليهم أن ينخرطوا في المؤسسات أو ظلوا خارج الهياكل التنظيميّة داخل المجتمع؟هؤلاء غائبون عن الهياكل التقليدية التي لا تعرف الأجيال السابقة غيرها. هؤلاء يرفضون وصمة الغرباء في عيون أجيال شاخت داخل تنظيمات متهالكة.

ابتكر هذا الشباب صيغة جواب جديدة عن سؤال “من أنتم ! ” مستفيدين من أشكال التعبير الجديدة عن الاحتجاج من خلال المظاهرات السلمية. وتعلن بشكل علاني وواضح عن آرائها السياسية ومطالبها الاجتماعية من خلال تكوين حشود تمر عبر الطرقات وتحمل هوية بصرية واضحة. تواجه الحشود الشعور بالتعالي الواردة في عبارة “من أنتم !” بشعور مضادّ وهو إثبات الذات وإبراز مظاهر التضامن الجمعي والدينامية الجماعية؛ وهكذا ينتقلُ الغرباء فجأة من حياة الهامش إلى مركز الأضواء.

لا جدال في أنَّ عبارة “من أنتم !” لا تحضر بلفظها على لسان المسؤولين، كلٍّ في مجال اختصاصه وعلى واجهة كل مستويات المسؤولية، ويحضُر معناها الذي يفيد تجاهل كلِّ هؤلاء الغرباء، دون أيّ اعتبار لشخصهم ولا لمطالبهم التي لا يستطيعون رفعها في إطار الهياكل التقليدية المتهالكة، أو هكذا يبدو لهم الأمر.يعلم جيل الشباب جيدًا كيفية استعمال طرق التواصل الجديدة، واستفاد جيدًّا من سرديّة المظاهرات السلمية وخطابها الحقوقي وقدرتها على الإقناع وحشد الأذهان وشحذ العواطف ومواجهة الحجة بالحجة.

مع الأسف، قد يتضاءل التحكم في استعمال سرديّة المظاهرات السلمية؛ وقد يصبح العنف، معاذ الله، هو الجواب عن سؤال “من نحن !” تؤدي المظاهرات آنذاك إلى عكس الهدف المطلوب، لا يهدف العنف آنذاك إلى تبليغ أيّة رسالة ولا إلى استعمال سردية حقوق الإنسان لتحقيق المطالب الاجتماعية. بل هو عنف من أجل العنف، واتّخذ أسماء مختلفة في العالم الإسلامي تفيد التمرد والعصيان والثورة وشق عصا الطاعة. قد ينهار بلد بكامله ويعمُّ الخراب ويُدمَّرُ للإجابة عن سؤال : من أنتم ! حتّى لا نتحول جميعا إلى غرباء عن بعضنا بعض، وينظر كلٌّ منا إلى الغريب كما ينظر إلى العدو. وقديما كانت مفردات العدو والغريب والأجنبي تحمل لدى اليونان نفس المعنى.

أمّا اليوم، نحن نؤمن بالصراع السياسي وبضرورة مواجهة الخصوم السياسيين والدفاع عن الذات ضد التهميش والإهانة ونؤمن بالحاجة إلى إصلاحات اجتماعية عميقة، دون أن نحول الخصوم إلى أعداء والوطن إلى خراب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق