المقالات

مدونة الأسرة : مسار الاصلاح وتحديات التنزيل.ج1 (صباح العمراني)

جاءت مدونة الأسرة ، كمحصلة لنقاش وطني ساهم فيه مجموعة من الفاعلين ، من علماء الشريعة ومثقفين، وعلماء اجتماع، وحركات نسائية ( الذين يمثلون التوجه الرسمي للدولة )، بعدما شهدت الساحة الوطنية سجالا سياسيا وفقهيا كاد أن يقسم المجتمع بين تيار حريص على الاجتهاد من داخل المرجعية الإسلامية والدفاع عن الأسرة وحمايتها ، وتيار آخر يرفع مطالب تعديل القوانين المتعلقة بالأسرة تجاوبا مع الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالمرأة بشكل اعتبره الكثير مسا ببعض قطعيات الشريعة الإسلامية واقتباسا من بعض التشريعات ذات التوجه التحرري .

وقد وضع التدخل الملكي حدا لهذه الخلافات بتعيين لجنة استشارية انيطت بها مهمة وضع تعديلات على قانون صمد طويلا أمام التغيير باستثناء تعديلات  سنة 1993[1].

صيغت مدونة الأسرة بروح توافقية استجابة لضغوط الفعاليات المجتمعية مع ما يشكله هذا المكتسب والاستمرار في العمل على تجسيده على أرض الواقع من تحديات ، حيث أن إدخال التعديلات على المدونة ليس هدفا في حد ذاته، بل إن التطبيق السليم لنصوص المدونة هو الرهان الأكبر والأصعب؛ هذا الرهان الذي يستوجب تضافر الجهود من اجل توفير البيئة الصالحة لهذا التطبيق . فما هي اهم المحطات التي مر منها تعديل مدونة الاسرة ؟ وكيف يمكن تقييم الحصيلة وأثرها على المرأة والمجتمع ؟

1-مسار الاصلاح : من مدونة الاحوال الشخصية الى مدونة الاسرة

لم يعرف المغرب في عهد الحماية ولا قبلها قوانين مكتوبة مصوغة في شكل قوانين عصرية في مجال الاحوال الشخصية [2]، فقد كان المغاربة المسلمون يخضعون فيما يخص تنظيم علاقاتهم الاسرية الى الاحكام المدونة في كتب الفقه المالكي ، وبالتالي ، فصدور مدونة تشتمل احكاما فقهية في شكل قانون عصري  تشكل نقلة نوعية على طريق التجديد والحداثة خلال حقبة بناء الدولة الوطنية .

وبعيد حصول المغرب على الاستقلال سنة 1957 ، تولت لجنة ملكية برئاسة علال الفاسي النظر في مشروع مدونة الاحوال الشخصية المحال من وزارة العدل ، تتكون هذه اللجنة من علماء خريجي جامعة القرويين . وتحيل ديباجة الظهير[3] المؤسس للجنة الملكية على الاطار المرجعي والحيثيات الواجب استحضارها اثناء الاعداد .  

وشملت المدونة ستة كتب ، ويحتوي كل كتاب على ابواب مختلفة :

*الكتاب الاول في الزواج ويضم ثمانية ابواب ؛

*الكتاب الثاني في انحلال ميثاق الزوجية وأثاره ويضم ستة ابواب ؛

 الكتاب الثالث : الولادة ونتائجها ويضم خمسة أبواب ؛

الكتاب الرابع : الاهلية والنيابة الشرعية و يضم تسعة أبواب ؛

 الكتاب الخامس : الوصية ويضم سبعة أبواب ؛

الكتاب السادس : الميراث ويضم تسعة أبواب .ويمكن ابداء الملاحظات التالية :

*حصر العضوية في اللجنة الملكية الموكل اليها مهمة اعداد المدونة لعلماء خريجي القرويين ، في الوقت الذي كان مجديا توسيعها لتشمل القضاة وباحثين في مجالات اخرى كالقانون والاقتصاد وعلم الاجتماع ، بالإضافة الى الطابع ألاستعجالي الذي وسم اشغالها [4].

*ذيل كل من الكتاب الثاني والرابع والخامس والسادس بفصل ينص على أن ”كل ما لم يشمله هذا القانون يرجع فيه الى الراجح أو المرجوح أو ما جرى به العمل من مذهب الامام مالك ، مما يؤكد ان المراد هو ترسيم وتدوين جوهر الفقه المالكي في مادة الاحوال الشخصية حيث تم استلهام جل قواعدها من المذهب المالكي وبالتالي سد باب الاجتهاد امام أي كان خارج هذا الاطار .

*أضفي على المدونة طابع القدسية حيث استمر العمل بها على الوجه الذي خرجت عليه مدة 36 سنة وباءت كل محاولات الاصلاح بالفشل ، حيث عملت الدولة بكافة الجهات الحكومية على حماية المدونة بغية مواجهة كل تجديد او تعديل ، رغم كونها اجتهادا وعملا بشريا يحتاج الى المراجعة والتعديل لتجاوز مكامن القصور التي يكشف عنها تطبيق نصوصها .

*إطلاق اسم مدونة الاحوال الشخصية بما له من حمولة ، وهو ترجمة حرفية لتعبير نظام الاحوال الشخصية ( statut personnel  ) والمستمد من مبادئ الفلسفة الليبرالية الغربية التي قامت على حرية تصرف الفرد [5] .

*تأسيس المدونة لأسرة تهتم بعلاقات الزوجين مع عدم الاهتمام ببقية اعضاء الاسرة من ابناء ذكورا وإناثا ؛ اباءا وأمهات ؛ اخوانا وأخوات .

ورغم الحماية التي عرفتها المدونة ، فقد ظهرت عدة محاولات للإصلاح بعد مصادقة المغرب على مجموعة من الاتفاقيات الدولية ، مما دفع عدة جمعيات ومنظمات نسائية الى ممارسة ضغوطات على الدولة من اجل الاصلاح . وعرفت المدونة عدة محاولات للإصلاح في السنوات التالية :

  • 1961 : مبادرة رؤساء المحاكم المغربية.
  • 1965 : مبادرة وزير العدل انذاك.

– محاولات اخرى سنوات : 1970 ، 1974 ، 1979 ،1981.

 كل هذه المحاولات الاصلاحية لقيت رفضا من المشرع المغربي وبقي العمل بالمدونة مند 1957 الى حدود سنة 1993 حيث كانت أول محاولة موفقة للتعديل [6]. وبالرغم من استعصاء مدونة الاسرة على التغيير كل هذه المدة ، إلا ان مطالبات الحركات النسائية والأذرع النسائية للأحزاب ذات المرجعية اليسارية بتغيير المدونة لم تتوقف ، حيث ربط التقرير النسوي للمؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المنعقد في شهر يناير 1975 دونية المرأة بالتشريعات التي كرستها مدونة الاحوال الشخصية. كما طالب تقرير الندوة الاولى للقطاع النسوي لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي سنة 1983 ، بتغيير مدونة الاحوال الشخصية في مجموعها .اما حزب التقدم والاشتراكية ، فقد طالب في وثيقة بعنوان ” المرأة المغربية وضرورة تطوير مكانتها في المجتمع “بمراجعة مدونة الاحوال الشخصية [7].

ونضجت فكرة المطالبة بتعديل المدونة بعد دعوة الاتفاقيات الدولية الى تغيير التشريعات الوطنية لتتلاءم مع الفلسفة التي تأسست عليها هذه الاتفاقيات في مجال حقوق الانسان وحقوق المرأة ، مع الاعتقاد الراسخ ان تحريك هذا الملف استعمل كورقة لتلميع صورة المغرب دوليا وخاصة الوضع السياسي الذي كان يعيشه في هذه المرحلة. ووصلت هذه المطالبات ذروتها في بداية التسعينات من القرن الماضي بتوزيع جمعية “اتحاد العمل النسائي ” عريضة لجمع مليون توقيع للمطالبة بتغيير المدونة [8] . اثارت هذه العريضة مجموعة من ردود الفعل من طرف مجموعة من العلماء وطيف من الحركة الاسلامية الذين اعتبروا هذه المطالبات لتغيير وتجاوز بعض الاحكام القطعية الثابتة في القرآن والسنة مثل احكام الارث والطلاق ردة في الاسلام [9].  وبعد احتدام الصراع حول تغيير المدونة بين الجمعيات النسائية والفعاليات السياسية من جهة ، وبين العلماء وطيف من الحركة الاسلامية من جهة اخرى وما رافق ذلك من تبادل الاتهامات والتوضيحات والبيانات ، تدخل الملك الراحل الحسن الثاني لدعوة الاصلاح باستقباله وفدا نسائيا ممثلا للحركة النسائية ، مبديا تفهمه لمطالب هذه الجمعيات في اطار تشبث المغرب بأسس دينه دون تحليل لما حرمه الله [10].

وفي 14 اكتوبر 1992 ، تشكلت لجنة من العلماء ورجال القانون برئاسة الأستاذ عبد الهادي بوطالب لتعديل المدونة ، توجت بإصدار مدونة الأحوال الشخصية بتاريخ 10/9/1993 . وجاءت اصلاحات سنة 1993 محدودة، ولكنها شكلت اللبنة الاساس في مسار الاصلاح .  هذه التعديلات لم تكن جذرية بل اقتصرت على بعض الفصول دون غيرها ، وشملت المجالات التالية :

* الزواج : تم إقرار قيدين على التعدد ، فاشترط المشرع على الزوج ضرورة إخبار الزوجة الأولى برغبته في الزواج عليها ، وأهم مستجد في هذه المادة يتمثل في أن التعدد في كل الأحوال ، لا يمكن أن يتم إلا بعد الحصول على إذن القاضي بذلك  .

*الطلاق : وضعت مدونة الاحوال الشخصية حدا للطلاق الغيابي الذي كان يعطي الصلاحية للزوج لتطليق زوجته غيابيا.

*الحضانة : أصبح الأب يحتل المرتبة الثانية بعد الأم في ترتيب الحاضنين (ف 99)، بعدما كان يحتل المرتبة السادسة قبل تعديل 1993. وتم تحديد سن الحضانة في 12 سنة للفتى و 15 سنة للفتاة بعدها يختار الاثنان الطرف الذي يريدان العيش معه.

*النفقة : أصبح بالإمكان رفع دعوى استعجاليه قصد الحكم بالنفقة وأسند للقاضي السلطة التقديرية في تحديدها.

*ثم احداث مجلس العائلة الذي تتلخص مهمته في مساعدة القاضي في تدبير شؤون ونزاعات الاسرة (ف 156) .

لقد ازالت التعديلات الجزئية التي عرفتها مدونة الاحوال الشخصية سنة 1993 رغم انها جزئية هالة القدسية عنها باعتبارها قانونا وضعيا كغيره من القوانين . ولكن هذه التعديلات  لم تلب متطلبات كثير من الحقوقيين والجمعيات والمنظمات النسائية لأنها لم تحقق أغلب متطلباتهم المتمثلة في الالتزام بمقتضيات الاتفاقيات الدولية وإلغاء التمييز بين الجنسين وتكريس مبدأ “المساواة” بين الرجل والمرأة ، والقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة ومنع التعدد بصفة نهائية وغير ذلك من المتطلبات التي نادت بها هذه الجمعيات .

وفي سنة 1999 ، انطلق نضال اخر من اجل تعديل مدونة الاحوال الشخصية، حيث تم اطلاق  مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية الذي شكل منعطفا حاسما لظهور المدونة الجديدة، وقد تفرق المجتمع المدني المغربي بين مساندين للخطة ورافضين لها[11] ، وكان من بين الرافضين وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ورابطة علماء المغرب بمختلف فروعها و جمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية ، و كذا الهيئات والجمعيات والأحزاب التي عملت على اصدار بيانات تندد بمشروع الخطة ، اضافة الى المسيرات الرافضة لها ويتعلق الأمر أساسا بمسيرة الدار البيضاء (12 مارس 2000 ) .

 وبالمقابل نادت مجموعة من فعاليات المجتمع المدني إلى تأسيس جبهة للدفاع عن حقوق المرأة ، والنهوض بها وتطبيق بنود الخطة ، وانطلقت مسيرة مؤيدة لها في الرباط (12 مارس 2000) حيث تجمع المؤيدون للخطة، وقد تأكد من خلال المسيرتين، أن غالبية الشعب المغربي راغبة في التعديل والتطوير لكن تحت الراية الإسلامية .

 في 27 أبريل 2001 تدخل الملك لحسم هذا الصراع حيث أعلن عن تشكيل اللجنة الملكية الاستشارية المكلفة بتعديل بنود المدونة كما هو الحال في مجموعة من القضايا الحاسمة في المجتمع ، مع أن اسلوب انشاء اللجان ينم عن خلل مؤسساتي ، فإنه لا يمكن لأي لجنة مهما كانت كفاءة اعضائها ان تقدم شيئا في ظل غياب الحرية والديمقراطية ، اشرفت هذه اللجنة على اعداد مدونة الاسرة في صيغتها الجديدة بعد الإعلان الملكي بقبة البرلمان في 10/10/2003 عن التعديلات الجوهرية في مدونة الأسرة .


[1]  – سيأتي في معرض حديثنا عن اهم المحطات التي عرفتها المدونة .

[2]  – عندما ارسلت الجامعة العربية الدكتور محمود عزمي  للقيام ببحث ميداني عن اوضاع المغرب السياسية والقانونية والاجتماعية ، اختصر استنتاجاته في ان ” المغرب امة بدون قانون ” انظر : عبد الهادي بوطالب : التأصيل الشرعي والقانوني لمكاسب الاسرة في المدونة الجديدة .ضمن اشغال يوم دراسي منم من طرف الجمعية الوطنية “الحضن ” ، من مدونة الاحوال الشخصية الى مدونة الاسرة : اي جديد ؟ الطبعة الاولى 1426 – 2005 . الصفحة 25 – 26 .

[3]  – الظهير الشريف الصادر في 19 غشت 1957 ، انظر محمد الكشبور : قانون الاحوال الشخصية مع التعديلات 1993 ، الدار البيضاء .مطبعة النجاح الجديدة .الطبعة 1 . 1993 .الصفحة 11 .

[4]  -احمد الخمليشي وعبد الرزاق مولاي رشيد : مدونة الاحوال الشخصية بعد ربع قرن من صدورها . المجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد ، كلية الحقوق ، الرباط .العدد 10  لسنة 1988 . الصفحة 37 .

[5]  – عبد الهادي بوطالب : التأصيل الشرعي والقانوني لمكاسب الاسرة في المدونة الجديدة ، مرجع سابق . الصفحة 27 .

[6]  – جميلة المصلي : الحركة النسائية بالمغرب المعاصر : اتجاهات وقضايا . مرجع سابق . الصفحة 209 .

[7]  – جميلة المصلي : المرجع اعلاه ، نفس الصفحة .

[8]  – لقد تعددت مطالبات الجمعيات النسائية لتغيير المدونة ، كانت اول مبادرة من الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب ، حيث طالبت خلال مؤتمر انعقد بالرباط سنة 1991 منظم من طرف لجنة ” المغرب العربي للمساواة ” ، وأكدت على ضرورة التطبيق الكامل لاتفاقية القضاء على كل اشكال التمييز ضد المرأة ، وانطلقت بعد ذلك حملة اتحاد العمل النسائي للمطالبة بتغيير المدونة لمعارضتها للدستور سنة 1991 . ووجهت الجمعية رسالة مفتوحة الى مجلس النواب دعت فيها الى تغيير المدونة سنة 1992 وكذا الى منظمات حقوق بالمغرب وتلت هذه الخطوة حملة المليون توقيع ، وأسست بعض الجمعيات النسائية ما سمي ب ” مجلس التنسيق الوطني من اجل تغيير مدونة الاحوال الشخصية والدفاع عن حقوق المرأة ”  انظر : جميلة المصلي ، المرجع اعلاه . الصفحات من 211 الى 214 .

[9]  – الحبيب التجكاني : قضية مدونة الاحوال الشخصية بالمغرب . الدار البيضاء ، مطبعة النجاح الجديدة ، الطبعة الاولى 1994 . الصفحة 23.

[10]  – خالد برجاوي : اشكالية مدونة الاحوال الشخصية بالمغرب بين الحركة النسائية والحركة الاسلامية . الرباط ، مكتبة الشباب .1998 .الصفحة 24 – 46 .

[11]  -عبد الهادي بوطالب : التأصيل الشرعي والقانوني لمكاسب الاسرة في المدونة الجديدة ، مرجع سابق . الصفحة 29 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق