المقالات

منطق التوحيد وجدلية المفارقة والمحايثة في كتاب “الجماليات المتعالية “:(مراد ليمام)_2_

ولما كان مركب أو فكرة الوحدة قائمة على الواحد المتحد مع مجموعة من الآحاد وفق قانون الجذب والطرد الفيزيائي، فإن تلك الوحدة النسقية تخضع لقوانين الانسجام، والتناسب، والانتظام.  فإذا نظرنا إلى هذه الوحدة في الخطاب القرآني نجدها خاضعة لتلك القوانين بشكل يجعلنا نكتشف انتظام وتماثل الوحدات والتراكيب اللغوية في المقدار والشكل انطلاقا من اختلافات وتقابلات  تحقق في شمولها وحدة وتماسكا. ومثل هذه الوحدة تتضمن رابطة كيفية ومعنوية بين مختلف العناصر على نحو يجعل المتلقي يشعر بنوع من الارتياح حين إدراك تضافر تلك الاختلافات وتجمُّعها ضمن وحدة انسجامية تتضمن كل الجوانب الجوهرية، وهذا من شأنه أن ينتج ارتباطا باطنا هو عامل تلك الوحدة من أجل الانتهاء إلى إدراك مفاهيمي لمسألة “رؤية  القرآن الكريم للوجود”. إنه التوازي في تدرج مستويات الفهم  ومراتب كينونة الباطن الذاتي للإنسان انطلاقا من الصرح اللغوي للخطاب القرآني وذلك بالانتقال من فهم اللغة مرورا بفهم الحياة وصولا إلى فهم الوجود.

وإذا نظرنا إلى تجليات الجماليات المتعالية على مستوى المادة المحسوسة الممثلة في لغة الخطاب القرآني، وجدنا الوحدة تستبعد كل تنافر لتتجلى صافية على المستوى الصوتي باعتباره العنصر الجوهري المحقق لجماليته. إن ما يميز الجماليات الصوتية للغة القرآنية هو مستويات البنية الإيقاعية ركز فيها الباحث على الفاصلة القرآنية معتبرا إياها مبحثا “من علوم القرآن الكريم”. لقد انكبت دراسة الباحث هنا على الدور التنظيمي للفاصلة في اللغة، وكيفية تحققها واشتغالها في علاقتها بباقي مكونات اللغة وخاصة المكون التركيبي والدلالي. فالمستمعون يشعرون بإيقاع لغة الخطاب القرآني ويستعملونه موجها ومعينا للتنبؤ بمقاصد هذا الخطاب. لذا انكب عمل إدريس مقبول على التنظيم الهرمي والإيقاعي بوصفهما مبدأين منظمين لدراسة الفاصلة كمكون تطريزي يعتمد على القواعد الفونولوجية. فالتناسب الحاصل بين اللفظ والمعنى “يتأسس معه جماليا إيقاع لفظي ناتج عن التوازي الصوتي والتركيبي والصرفي” اعتمادا على فواصل القرآن الكريم. حاول الباحث من خلال تناوله أقسام الفواصل تقديم تمثيل فونولوجي لمجموعة من المكونات التطريزية مثل التنغيم، والنبر، والطول، والمد، وغيرها من مقومات الإيقاع اللفظي المنتظمة هرميا في وحدات معنوية. لقد استثمر الباحث منجز الدراسات اللسانية التراثية والحديثة لإظهار جماليات الخطاب القرآني من خلال إيجاد تمفصلات بين الفونولوجيا، والإيقاع، والتطريز: فالمكون الفونولوجي في القرآن الكريم شديد الارتباط بالمكون التركيبي، بينما تعتبر المكونات التطريزية عنصر التوسط الإلزامي بين المكونين السابقين والذي يتأثر بالعامل الدلالي وسياق إنتاج الخطاب.

ولا يتوقف الباحث عند حدود الجماليات الصوتية، بل هي نقطة البدء التي تظهر الأنواع المختلفة لنقاء أصوات لغة الخطاب القرآني في دقتها ووحدتها المطردة في نبرات بسيطة تبعث فينا الارتياح مؤلفة تطورا لحركة تدريجية لبنية الكلمة من الناحية المعجمية والصرفية: أي المرور من التمثل الفونيمي إلى التمثل المعجمي-الصرفي. ضمن هذا الاتجاه، يقر الباحث بصعوبة ترجمة المفردات المعجمية في الخطاب القرآني لأنها تشكل بوتقة ثقافية مزدحمة بما يعتمل فيها من معطيات الثقافة والعقيدة والفكر الإسلامي. فصناعة الألفاظ في هذا المجال تخضع لأسلوب  وقدرة على إحكام تخيرها وانتقائها في سبك جمالي إبداعي مائز: “فكأن الألفاظ القرآنية بحمولتها الدلالية وجرسها الصوتي ومداها الخطي ورصفها التركيبي لا تقبل أن يكون مكانها غيرها ولا أن يؤدي معناها سواها”. كما أن التركيب المرفولوجي لبنية الألفاظ يتأثر بالمعاني والدلالات، لأن تلك الألفاظ تتألف من بنية معنوية تتحول لتصبح جزءا من البنية الصرفية: وكأن هيئة اللفظ تجعل المعنى على ما هو عليه، لأن المعنى هو الذي يحدد بنيته. فالمعنى ليس شيئا مفروضا من الخارج حتى لا يتجرأ بعضهم على ادعاء أن البنية الصرفية والمعنى مختلفان أتم الاختلاف، بل على العكس فالبنية الصرفية ضرورية وجوهرية للمعنى. وهكذا يتحد المعنى بالبنية الصرفية ويندمج منهما الواحد في الآخر ليكون كل طرف هو عين الطرف الآخر: “ومن الجماليات الصرفية ما ذهب إليه المفسرون في توجيه بعض أبنية القرآن الصرفية مما يعكس وعيهم اللغوي الدقيق والمتقدم بتأثر المعاني والدلالات بتغير المباني والهيئات”. فجماليات التعبير في هذا الصنف–وفق تصور الباحث- تستدعي التمييز بين نوع صرافي-اشتقاقي يتحدد بإضافة معنى معجمي (مثل الحياة/الحيوان)، ونوع ثان يستوجب معنى صرافيا-تصريفيا خاضعا لمقتضيات المحور التوزيعي.

وتستمر حركة الجدل في المقدار الامتدادي للوحدات اللغوية داخل الخطاب القرآني ضمن ما يصطلح على تسميته الباحث ب“الجماليات النظمية”: فالتركيب في ذاته متعدد لكونه مجموعة آحاد كثيرة -تعكس الألفاظ المتألفة من حروف متصلة- في وحدة كمية واحدة ترادف مقدارا كثافيا تنعقد فيه الدلالة الصحيحة. تمثل هذه الأخيرة وحدة تستبعد الاختلاف -ضمن قانون الطرد- في إطار الاندراج المتبادل لتلك الآحاد -وفق قانون الجذب- داخل بنية النظام اللساني للخطاب القرآني. تمثل هذه البنية تعيينات خارجية مرئية محسوسة ومدركة تتحد مع عناصر تلك البنية رغم تمايزها عنها في تحدد بسيط وفق قانون التناسب المحكم بين الجانب المادي والمعنوي من حيث يُفضيان إلى التوحيد: “فالقرآن ببنائه اللغوي يتميز بنسقيته ونظمه في ذاته، وهو الدليل على وجود حكمة عليا وراءه هي حكمة الله تعالى، والكون أو العالم الطبيعي بنظامه المركب في ذاته دليل على وجود الله تعالى وعلى وجود حكمته… فالجماليات التركيبية هي صنو الجماليات الكونية”. كما ينبه صاحب الكتاب إلى أن جماليات التركيب تتطلب استحضار البعد الدلالي-التركيبي القائم على المعلومات الدلالية والتركيبية المتعلقة بكل ما له صلة بالمعارف النحوية والدلالية والتداولية المُحققة  للإعجاز في النظم القرآني وفق ثلاثة أركان: “فصاحة اللفظ، وحسن النظم، وصحة المعنى”.

وتجدر الإشارة إلى كون البعد الدلالي-التركيبي للخطاب القرآني يشترط أسلوبا يتلاءم وطبيعة لغته التي تصاغ وفق ضوابطه ومقتضياته. لذا يثير الباحث أهمية النسيج اللغوي المتحدد في مجموعة من المقومات المميزة للجماليات الأسلوبية في الخطاب القرآني. بناء على هذا الوعي يقر المؤلف بالمقومات التي يختص بها القرآن دون غيره من الشعر. فأساليب القرآن “سبائك لا تشبهها سبائك الشعر في شيء”، والسبيكة وفق هذا المفهوم الجمالي جوهر لامع وخالد بفرادته مع الزمن لا يبلى ولا يخلق. إنها وهج استعاري كثيف يدخل في صور الانزياح والعدول اقتصر الكاتب فيه على أسلوب الالتفات والانتقال في الهويات والمنظورات لإظهار الإعجاز العميق والغائر الذي يبحر في تلوين الخطاب عبر تعدد الضمائر والمزاوجة بين الخطاب والخبر ليقنص ما يدهش ويبهر القارئ في قراءته التذوقية.

وانبثاقا من الحيثيات السالفة، تُعتبر العناصر ذات الصلة بالمستوى الصوتي، والمعجمي، والصرفي، والتركيبي جماليات من الدرجة الأولى تشكل حدا  ذا مقدار كثافي يدمج بداخله كل المستويات السالفة ليتحد مع حد ثان هو الدرجة الثانية المعتمدة على عامل الاتصال الذي يدمج بدوره مستويات متضايفة مع مستويات الدرجة الأولى. وتتمثل مستويات الدرجة الثانية –من وجهة نظر الباحث- في العنصر الدلالي، والتداولي، والتصويري، والسردي.

تتفتق الجماليات الدلالية من دينامية الخطاب القرآني الذي يجمع بين الحركية والثوران والتفجر المتصل للمعاني في التاريخ وذلك قياسا لقدرته على الانفتاح وإثارة عدد كبير من الدلالات والاستجابات المشروعة. وبهذا، يكون الاتساع الدلالي من أصول الخطاب القرآني نظرا لمخزونه المعرفي وثرائه الدلالي الذي يمتد إلى آفاق جديدة إثر تقاطع المجالات الدلالية لدوال الرصيد المعجمي في لغته. لهذا، تنزاح ألفاظه تبعا لسياقاتها بفضل تدخل القنوات البلاغية من مجازات ليمسي خلوده نابعا من خصوبة جمالياته الدلالية. 

إن قابلية الوحي القرآني للتفسير والتأويل تجعل المعنى يرتد إلى دلالات ذات صلة بعوامل واعتبارات خارج لسانية من مقاصد، وأغراض، ومقامات تنبع من الخواص التركيبية. ويقر الباحث بأن ما يحمله الخطاب القرآني من قصد هو بناء لتجربة الذات مع العالم داخل هذا الخطاب، لأن قصد المتلفظ من الملفوظ أثناء التلفظ لا يُرد كاملا إلى الدلائل اللسانية، بل إلى مقام القول بمكوناته المختلفة والمتغيرة. كما أن العلاقة التخاطبية المؤسسة للجماليات التداولية في كتاب إدريس مقبول لم تتحاش جانب المتكلم ومقامه في الخطاب القرآني بمبرر إتقان المطابقة، بل نراه يؤسس لعلاقة تواصلية تنبني بموجبها طرق مختلفة للإقامة مع الآخر في العالم. إنها إقامة محددة وفق ثلاثة مقتضيات تراعي منطق التأدب والتعددية والاختلاف استقاها الكاتب من الفكر الإسلامي والمدارس اللسانية وهي “التعفف، والتخيير، والتودد”. غير أن تلك العلاقة التخاطبية لا تخضع في مجملها إلى معايير لسانية تداولية، إذ تمتد لتشمل الفعل البلاغي من خلال مقامات تفترض استجابات تأخذ بعين الاعتبار الطابع التخييلي للخطاب القرآني. فالجماليات التصويرية وثيقة الارتباط بالخيال الذي لا يقتصر دوره على استعادة صور الأشياء عند غيابها عن الحواس، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة بناء الصور بطريقة مفارقة تُخضع المتلقي وموقفه المحكوم بقبضة السياق الحضاري إلى الوقائع المطلوب إعادتها، والحالة النفسية والشعورية عند تمثلها على نحو يشي بمظاهر الثراء الدلالي للقرآن الكريم، وقابلية ألفاظه للتثوير. وبذلك تصبح الثورة في التعبير والتصوير قطيعة مع قيم الجمود، والركود بالانزياح عن الموروثات لحظة القراءة المتجددة للخطاب القرآني الحامل للوعي التثويري عبر الخبرات الإنسانية المتجددة. ومن أجل إحكام البناء الفني والتصويري لجأ الخطاب القرآني إلى اعتماد أسلوب جمالي مطعم بتقنيات فنية مثل السرد لنقل الأحداث، ولتقديم الخلفية المكانية والزمانية والمؤثرات الخارجية مثل تعدد الأصوات. فالخطاب القرآني لم يغفل أهمية البناء القصصي، وإنما جعله مختلفا عن المواثيق السردية والكتابية السابقة عليه وفق “جماليات سردية” مفارقة مبنية على تصميم خاص. وتتجلى هذه الأخيرة في الخطوط المتموجة واللولبية للرسم الإملائي الاصطلاحي في الخطاب القرآني، وكأن “الجماليات الرسمية نسبة لرسم وخط القرآن الكريم” تعبير عما هو حسي يُخفي وراءه ما هو ورائي غيبي مفارق. لذلك أمكننا القول إن فنية الخطاب القرآني تتخذ طابعا مزدوجا لا يتمكن من كشفها إلا من تسلح بآليات لفك هذا الخطاب ورصد تقنياته. فمن أراد الانخراط في التجربة الجمالية للخطاب القرآني عليه تذوق مستويات بنائه الفني ومنطق تركيب عناصره داخليا بعيدا عن كل نزعة خصامية.

لعله بات واضحا مدى الاتساع والشمول الذي بلغته الجماليات في الخطاب القرآني انطلاقا من المستويات المتعددة، غير أن الباحث يواصل دراسة القضايا التي تهتم بالتلاؤم بين التعابير الرمزية للغة الخطاب القرآني والسياقات المرجعية والمقامية والحدثية من خلال العلاقة بين القاعدة اللغوية و الاستعمال. فتثوير الخطاب القرآني حاضر في الدراسة الاستقصائية للخطاب القرآني في بعده الدلالي والتداولي، طالما لغة القرآن كائن حي ينمو ويتطور تحت بنية التفاعل داخل المجتمع وعبر تاريخ الإنسانية الصاعد. ولقد أظهرت الدراسة عوامل الوحدة المتحدة مع مجموع أجزائها، فالآلية الصورية المعتمدة من قبل الباحث تركز على الاتحاد المطلق بين الطبيعة الداخلية والفنية للخطاب القرآني وعلاقاته الخارجية القائمة على اعتبارات مقامية تهب المعنى المراد في كل موضوع من موضوعات الكون الذي يُنظر إليه على أنه وحدة متماهية مع نسقية الخطاب القرآني في شموليته. فالعلاقات الخارجية في ارتباطها بموضوعات الكون ليست محايدة مع الطبيعة الداخلية والبنيوية للخطاب القرآني “ابتداء من بلاغة الصوت إلى بلاغة الكلمة إلى بلاغة التركيب إلى بلاغة النظام في اتصال الصور بعضها ببعض وتكميل أطراف القصص للقصة الكاملة وانتهاء بقيم الهداية”.

إن جاذبية الوحدة التي تطبع الخطاب القرآني في تماهيه مع وحدة الكون تندمجان في هوية واحدة تبدو فيه الوحدتان متحدتان اتحادا مطلقا. فإذا نظرنا إلى الخطاب القرآني والكون في جزئياتهما اعتبرناهما وسيلة، أما إذا تأملنا وتدبرنا فيهما على أنهما يشكلان غاية لإدراك الحقيقة اللامتناهية لفكرة الحق والخير الموضوعي القابل للتحقق بالفعل، اكتشفنا الحركة الصاعدة التي يمتزج فيها الديني الأخلاقي بما هو فني وجمالي. 

وما الجماليات المتعالية سوى عظمة الخير والحق المتماهيان مع الجمال المطلق الحاضر في الوحدة الفنية للخطاب القرآني ومكانز الكون. فالجمال بقدر ما هو مفارق نجده محايثا من خلال تمظهراته المسطورة في  الأشكال اللغوية التي نعجب بها في تناسقها وانسجامها على نحو يبعث الشعور بالمتعة الجمالية والرضى الذاتي، وتلك المنظورة والمستعرضة استعراضا حرا يشهد على الحضور الإلهي في الكون بوصفه عالم الشهادة. فالتمثل الموحد والمنسجم لهذا الأخير نابع من جماليات الخطاب القرآني الذي يحدد طبيعة عالم الشهادة ومصدره ومصيره، ضابطا في الآن ذاته موضع الإنسان المسلم في ثنايا الوجود.

يطلق كتاب “الجماليات المتعالية” لإدريس مقبول نداء الإنصات إلى رنين الخطاب القرآني من منطلق أن القضايا المتصلة بالكون الإلهي وماهية الإلهي تفترض تذوق جماليات هذا الخطاب الذي يستحضر ضمانة الله في العلاقات التخاطبية. فكل ما يصدر عن هذه العلاقة يحيل إلى الإلهي ويستدعيه من خلال معادلة الله، والخطاب، والكون فيحل الواجب المطلق في الأخلاق، والمجتمع، والسياسة…  إنه واجب يتجدد باختلاف العصور والثقافات ليبث في الخطاب القرآني روحا جديدة منتجة ومثمرة لأنه من أكثر الكلام استعمالا للمجاز، فضلا عن كون الحقيقة لا تتمتع بوضع مستقل عن اللغة والمجال التداولي الذي تُستعمل فيه. فالتباين في المقاصد بين فرقاء دار الإسلام يكون نتيجة “الحاجة لتعميق دلالة السياق  في التعامل مع القرآن الكريم لأجل استمرار مسيرة تثوير الدلالة القرآنية، وذلك من أجل تحقيق إنتاجية ثقافية وأخلاقية في كافة حقول الجهد العقلي“. فالمقاصد والمصالح صيغ خطابية تتجلى بحسب تباين الأزمنة والأمكنة لتحمل السيرورة التأويلية طبيعة تداولية تتأسس هندسة دلالاتها على فنية التركيب الداخلي لمقتضيات الدائرة الجمالية والأخلاقية في الخطاب القرآني دون انزلاقات الدلالة وانعطاف تحولاتها في المراوغات الخطابية والمقاصد السيئة. فبقدر ما ما يُظهر كتاب إدريس مقبول أن منطق التوحيد متأت من مقتضيات فنية جمالية يمكن الوقوف عليها في الأثر اللساني للمتعالي بشكل يسمح بالاقتراب  من عالم المعاني وماهية لغة القرآن الكريم، بقدر ما يدافع ضد تجريد الكينونة من المعنى المتهافت بفعل آليات تحليل الخطاب التي تحتمي تحت بلاغة الحجاج، والدراسات الأسلوبية، ونظريات الاستعارة والصورة. وكأن الكاتب ينطلق من رغبة مضاعفة: تأسيس الاختلاف على أرضية صلبة هي قواطع الشريعة في المجتمعات ذات الأرضية الإسلامية حتى لا نقع في الفوضى العارمة والفتنة التي من الممكن أن تجتث الأخضر واليابس، ثم بناء تقاطعات بين الجوانب اللغوية  وبين الجوانب الأخلاقية  في القرآن الكريم انطلاقا من جذع دلالي مشترك يوحد عوالم الخطاب القرآني وعوالم الكون ويمنحهما الانسجام  من خلال حد الجماليات المتعالية. 

ومن الأهمية البالغة –في الأخير- أن ننبه القارئ إلى أن العنوان الفرعي للكتاب الموسوم ب “مقدمة في لسانيات القرآن الكريم” يأخذ على عاتقه تأكيد مبدأ التوحيد والعلة الأولى بناء على تداخل ثنائية الجمال والأخلاق التي يتولد عنهما لغة الخطاب القرآني وانتظام موجودات الكون. فالنتيجة المتضمنة في كل مقدمة تتخذ من اللسانيات أداة لتفسير الجماليات المتعالية في الخطاب القرآني مبنية على شرطين أساسيين: الشرط الأول يكمن في كون النسيج اللغوي للخطاب القرآني مبدأ أنطولوجيا لانتظام الكون، بينما يتمثل الشرط الثاني في  جعل المداخل الحسية السمعية، والبصرية… ذات الصلة بموجودات العالم المنظور محفزات ومرجعا لسانيا في بناء الدلالة للخطاب القرآني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق