المقالات

قصتي مع كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” (عبد الهادي المهادي)

1. حقيقة وصدقا، لم يؤثر فيَّ كتاب، على كثرة ما قرأت، مثل ما فعل “الإسلام بين الشرق والغرب” للمفكر المجاهد الألمعي “علي عزت بيجوفيتش”، وإنه يُعدّ الآن ثاني أجمل كتاب قرأته في حياتي، وحَسرتِي لا حدود لها لكوني تأخرت كثيرا في الاطلاع عليه؛ فلم أقرأه ـ ويا للأسف ـ إلا شهر يناير 2012، بعد أن كنت قد تعرفت على الكاتب والكتاب أواسط التسعينات من القرن الماضي، عندما كانت بعض الجمعيات المغربية تقوم بجمع التَّبرُّعات للمسلمين المنكوبين في “البوسنة والهرسك”، قلت حينها: إن كتابا تُجمَع به التَّبرُّعات لهو أحق أن يُزْدَرَى ! كنت يومها في عزِّ مراهقتي الفكرية، ( وبكل صراحة؛ حتى لو قرأته حينها لم أكن لأستوعب منه إلا القليل) وتعلمون أن الإنسان ـ لخِفَّتِه حينها ـ غالبا ما يتَّخذُ مواقفَ يُحسُّ بالخِزْيِ اتجاهها بعد بلوغه الرشد الفكري. والشيء بالشيء يذكر؛ فقد وقع لي نفس الأمر مع طه حسين، هذا القامة الشامخة في تاريخ الثقافة العربية تأخرت في قراءته ـ وإن كان قبل علي عزَّت بكثير ـ بسبب بعض أفكاره في “مستقبل الثقافة في مصر” و”في الشعر الجاهلي” التي جرَّت عليه نقمة البعض ـ وحُقَّ لهم ذلك ـ فسحبوا غضبهم على كل إنتاجاته، وصاروا يعبِّئون ضد شخصه وفكره، بل وينشرون الإشاعات حوله، كقولهم مثلا بأنه صرّح قائلا:”هاتوا القلم الأحمر للأصحِّح القرآن”، وهذا مستحيل أن يصدر من رجل نبيه كـطه. وعندما تذوَّقته أجَّلت كل مقروءاتي حتى أتيت، وفي نَهَمٍ، على جلِّ ما كتب. وكان ينبغي أن أفعل ذلك ابتداء من أيام التلمذة في الإعدادي.

ولكن من الذي أعاد لعلي عزت هيبته في نفسي؟ أو قل، من الذي عرفني عليه؟

2.

لقد صُدمت كثيرا عندما قرأت عبد الوهاب المسيري يقول ـ وبتواضع كبير ـ في “سيرته الفكرية” وكذا في الجزء الأول من “حواراته” في معرض تعريفه بمصادره:” من أهم الكتب التي أثرت فيَّ كتاب علي عزت بيجوفيتش الذي يحمل عنوان “الإسلام بين الشرق والغرب”. لو كنت قرأت هذا الكتاب في مقتبل حياتي الفكرية لوفَّر عليَّ وقتا كبيرا، لأنه قدّم رؤية إنسانية إسلامية للكون رائعة وعظيمة”. فقلت في نفسي:”كيف يكون لهذا الكتاب هذه القيمة العظمى وأنا لم أهتم به”.

ولأني أحترم المسيري وأقدِّره غاية التقدير، فقد نهضت من حينها ـ حقيقة وليس مجازا ـ أبحث عن نسخة في مكتبات مدينتي، ولكن للأسف لم أجد ولو واحدة ! لا تتفاجؤوا، فطنجة ذاهبة في اتجاه تصفية مكتباتها؛ فبعضها أُغلِق، وواحدة تحولت إلى مطعم، وثالثة أصبح ورثتها يزاوجون بين بيع الكتب وبيع المواد الكهربائية، وأغلبها يظل مفتوحا طول السنة تبيع للرُّوَّاد ـ وما أكثرهم ! ـ كتبا من قبيل “مثلث برمودة” و”حوار مع جنِّيٍّ مسلم” و”عودة الشيخ إلى صباه” انتظارا لموسم الدخول المدرسي !!

طبعا الكتاب موجود على شبكة الأنترنيت، ولكني لا أجد أي “متعة” في مطالعة كتاب على هذه الشبكة، بقيتْ مكتبة واحدة يبيع صاحبها كتبا مستعملة، فظفرت بنسخة كانت منزوية في ركن منذ سنوات، كما قال لي صديقي الكتبي، وكأنها كانت تنتظرني ! والغريب أن أحد الأصدقاء الذي وقعت له نفس الحكاية تقريبا طمع فيها، طبعا “مَعْقَلْتْشِ عْلْهْ” كما يُقال بالدارجة الشمالية. عندما عدت إلى البيت “منتصرا” تصفَّحته، وغلَّفته، لأن النسخة كانت مهترئة، ثم انكببت عليه أتعبد في محرابه.

والغريب أيضا أنه في تلك الليلة، سمعت “عدنان إبراهيم” يُثْني على الكتاب أيَّما ثناء في إحدى خطبه. فقلت في نفسي مُتَّهما:” يبدو أن كل الناس تعرف قيمة الكتاب إلاَّك أيُّها المدَّعي” !

بعد أيام من ذلك ستظهر طبعة جديدة عن دار الشروق المصرية مُطرَّزةٌ بتقديم مُطوَّل للأستاذ المسيري تحت عنوان “مقدمة لقراءة فكر علي عزت بيجوفيتش”. وقد سبق للمسيري أن حاضر في إحدى جامعات الخليج عن بيجوفيتش، وهي موجودة على “اليوتيوب”. (أنصح بأن لا تُقرأ هذه المقدمة في البداية).

عندما بدأت قراءته اكتشفت بالفعل، وكما قال مترجمه الأستاذ محمد يوسف عدس، “أنه ليس كتابا بسيطا يمكن للقارئ أن يتناوله مسترخيا، أو يقتحمه من أي موضع فيقرأ صفحة هنا وصفحة هناك ثم يظن أنه قد فهم شيئا، أو أنه قادر على تقييمه أو تصنيفه بين الأنماط الفكرية المختلفة، إنما على القارئ الجادِّ أن يَحْتَشِدَ له، ويتهيَّأ للدخول في عالم كتاب ثريٍّ بأفكاره، متميز بمنهجه، أخّاذ بأسلوبه وقوة منطقه وثقافة صاحبه العميقة الواسعة”.

من أجل ذلك وجدت بعض الصعوبة في استيعاب كل ما طرحه علي عزت من أفكار ورؤى وتصورات، فلم أجد بُدّاً من إعادة قراءته، وبالتروي اللازم، وبالورقة والقلم كما يقال، وهذه عادة لا أمارسها إلا نادرا؛ ذلك أني أجد ضنكا كبير في إعادة قراءة كتاب مرة ثانية، رغم وَعْيي بأن قراءة ثانية لكتاب دَسمٍ قد يكون أفيد من قراءة آخر جديد، وهنا أحيِّي صديقي النَّهِم الأستاذ الذَّوَّاقة “عبد الواحد الإدريسي” الذي يتمتع ويستمتع بهذه الميزة، والذي قرأ مثلا “رسائل مولاي العربي الدرقاوي” و”الولاية والنبوة عند محيي الدين بن عربي”و “ديوان الشابي” وغير ذلك أكثر من عشر مرات.

بعد إعادة قراءته اتصلت بأصدقاء، وراسلت بعضهم، ولم أُفوِّتْ فرصة لقاء آخرين إلا وشجعتهم على قراءته، وكلهم تقريبا، كلهم، كانوا يقابلون تشجيعي بفتور، إلى درجة أن أحدهم قال لي باستخفاف، بعد أن لوى وجهه: “وما الذي يمكن أن يقوله علي عزت بيجوفيتش”. وقد أرسلت لأحدهم رسالة قصيرة أقول له فيها مازحا:” أول ما ستُسأل عنه غدا يوم القيامة هو: لمَ لمْ تقرأ علي عزت” !

3.

لقد أحببت الرجل وشُغِفْتُ بفكره ـ طبعا في حدود، وإلا فهناك ملاحظات تسجل على رؤيته خاصة تلك التي ينطلق منها ليميز بين الثقافة والحضارة، والتي بنى عليها أحكاما ليست متينة كفاية، وكذا تفريقه المنهجي الجميل بين “الدين” و”الإسلام”، لكن الأمور اختلطت عنده عندما أراد تحليل ظاهرة الفن على ضوئهما ـ فبدأت أبحث عن كتبه الأخرى، فقرأت أولا “البيان الإسلامي” ثم “هروبي إلى الحرية” وأخيرا “سيرته الذاتية”، وشاهدت كل الفيديوهات التي تؤرخ لحياة الرجل وفكره. حتى أني في كل مناسبة اجتماعية يكون صاحبها محبا للقراءة أهديه أحد الكتبين: إما “الإسلام بين الشرق والغرب” أو “السيرة الفكرية” للمسيري.

4.

لا أجد تقييما للكاتب والكتاب أفضل مما قاله ناشره ومقدموه الأساتذة “عبد الحليم خفاجة” و “عدس” و”لحسن قرشي” و”باليتشي”.

فعلي عزت “يقف في هذا الكتاب على قمة فروع المعرفة، فخلفيته الثقافية كشفت عن أستاذيته في جميع العلوم، فهو عالم وفيلسوف وأديب وفنان في مقام الأستاذية في كل فرع، ولكنها أستاذية المسلم التي تمثل كل ما أنجزته حضارة الغرب، ثم ارتقى بتلك العلوم نحو ربط وثيق بالهدي السماوي الذي جاء به الإسلام”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق