المقالات

قراة تقديمية لكتاب: انتحار الغرب. (محمد أبرعوز)

الكتاب الذي بين أيدينا من الكتب التي تصدرت واجهة المكتبات حين صدوره، وأحدث نقاشا واسعا في الأوساط الثقافية والأكاديمية الغربية. والكتاب يتمحور حول قضية من القضايا التي شغلت المفكرين الغربيين، يفسر ذلك العناوين التي تقاسمت القضية بمرادفات متقاربة من قبيل : انتحار الغرب” و انهيار الغرب، واندحار الغرب…وغيرها.
تأتي أهمية الكتاب من شخصية المؤلفين اللذين تكاملا في الكتاب ريتشارد كوك، وكريس سميت :أحدهما سياسي أمركي محنك، والآخر رجل أعمال ومثقف بريطاني.
يروم الكاتبان منذ المقدمة الإجابة عن ممجموعة من الأسئلة المقلقة المستقاة من العودة إلى تاريخ الغرب، وبالضبط إلى مائة سنة خلت (1900).
وهي الفترة الزاهية للحضارة الغربية على مر العصو، بحسب الكاتبين. ومن هنا جاءت الأسئلة التالية: لماذا كنا متقدمين ثم صرنا متخلفين؟ لماذا انتهى الغرب إلى حالة التلاشي المعاصر؟ ما خصوصية الحضارة الغربية؟ ما سر نجاحها؟ لم هي اليوم مهددة؟ وهل بمقدورها الاستمرار؟
يحاول الكاتبان تقديم أجوبة عامة أولية لخصاها في وجود ست أفكار ممييزة للحضارة الغربية تشكل أعمدتها التي بني عليها صرحها، وهي : المسيحية، والتفاؤل، والعلم ،والنمو، والليبيرالية ،والفردية.

هذه الأفكار، أو الأعمدة، هي التي ستشكل متن الكتاب على امتداد فصوله الثمانية، كما تشكل الميزان الذي يعرض عيه الكاتبان واقع الحضارة الغربية اليوم، فحضورها يشكل عنصر القوة د، أما غيابها فيشكل عنصر الضعف ومقدمة الانهيار.
يؤكد الكاتبان أنه تم الهجوم على هذه القواعد التي بنيت عليها الحضارة الغربية، فلم تعد ملهمة ولا موحدة للإنسان الغربي المعاصر ولحضارته.
وفي هذا الصدد ينبهان إلى أنهما ليسا بصدد رثاء الحضارة الغربية، فالقيم الخالدة حين تهاجم يجب أن تصمد وتقاوم أو ترمى وتتجاوز.
يدقق الكاتبان في عنصري العنوان فالغرب عندهما يتخذ حيزا أوسع من مجرد الرقعة الجغرافية، ليصل إلى كل بقعة تسودها الثقافة الغربية، لكن النواة تظل هي: أمريكا وأوروبا، وأستراليا..ونيوزيلاندا..
أما الانتحار فيقصدان به النهاية الطوعية التي تفرضها الحضارة الغربية على ذاتها، نهاية لادخل فيها لعدوان خارجي، والانتحار في الكتاب شكل من أشكال التحول الحضاري الغربي الرائد إلى حضارة أخرى بقيم أخرى بعيدة عن القيم الغربية بالأعمدة الستة المميزة لها.
يفرد المؤلفان الفصل الأول من الكتاب لهوية الغرب التي يعتبرانها القضية الأولى والحاسمة، فهي أهم من البقاء الاقتصادي الذي يرى فيه الكثيرون منبع قوة الغرب، ينتقدان بشدة الهوية القومية التي كانت وراء إشعال حربين مدمرتين في أوروبا، لذلك وجب تجاوزها ببناء هوية قائمة على المصلحة الاقتصادية والسياسية: (الاتحاد الأوروبي/ الناتو/ السوق الوروبية المشتركة)، لكن هذه الأخيرة نفسها ستتعرض للشخصنة والموضعة، مما سيسمح بظهور ولاءات أخرى شديدة المحلية ذات منطلقات بيئية وجنسية وعرقية ولغوية. كل ذلك يدفع في نظر الكاتبين في اتجاه هوية متشظية.
يقترح الكاتبان لتجاوز أزمة الهوية هذه التركيز على الأفكار( القيم) المتشابهة والمشتركة بين أمريكا وأوروبا، والحد من القوميات المحلية لصالح مزيد من التقارب والتحالف بينهما. وبعد تقليب مجموعة من الخيارات يخلصان، بنظرة غربية استعلائية، ألا بديل عن هوية غربية للعالم، نظرا لقوتها وتاريخها الفريد، وقدرتها على صهر مختلف العرقيات والهويات في بوثقتها، الإضافة إلى انفتاحها على القيم الإنسانية الفردية والكونية..
في الفصل الثاني ينتقل الكاتبان للحديث عن الركيزة الأساسية ومفتاح فهم الغرب بقوته وضعفه ألا وهي المسيحية، لأنها حملت روحا محررة، ودعت إلى التميز والتفرد وضبط النفس وتحسين الذات، وتفجير الطاقات الفردية من خلال دفع الإنسان الغربي نحو الإحساس بالمسؤولية مدعمة ذلك بنصوص من مثل: “إن الله أحب العالم كثيرا إلى درجة أنه أرسل ابنه الوحيد إلى الأرض” ليمتزج الإلهي بالإنساني فتتحقق المعجزات، وقول أناسيوس: “إن الله صار إنسانا لكي نصير نحن آلهة”..
المسيحية كذلك أسهمت في تطور العلوم الغربية، لأن الغربيين المسيحيين استلهموا رغبة المسيح في الاحتفاء بخلق الله وفهمه..
يلاحظ الكاتبان، بدقة، ازدهار روح المسيحية خارج الكنيسة من خلال انتشار كتب تجويد الذات وتحسين الأداء (كتب كارنيجي مثلا)، فرغم خفوت المسيحية دينا، إلا أن هذا النوع من الكتابة المستلهمة لروح المسيحية كان أقرب إلى المسيحية الأصلية من أي كنيسة معاصرة.
لكن الجانب المظلم في فكرة المسيحية، كما يرى المؤلفان، هو الحماسة التبشيرية والتطرف الموروث من المسيحية الأولى، التي أشعلت الحروب الصليبية ودفعت الغربيين نحو الرغبة الجامحة للهيمنة على العالم.
في الفصل الثالث يناقش الكاتبان عمودا آخر من أعمدة الحضارة الغربية وهو: التفاؤل. يرجع الكاتبان ثاني أعمدة الحضارة الغربية جذور “التفاؤل” إلى ثلاثة معتقدات متضافرة معاً وهي: – أسطورة الحكم الذاتي؛ أي مقدرة الأفراد على تولي مسؤولية مصيرهم. – أسطورة الخيرية؛ بمعنى أن البشر بوصفهم جزءاً من خلق الله، هم خيرون في الأساس. – أسطورة التقدم؛ أي أن التاريخ يسير نحو الأمام، والحاضر أفضل من الماضي، ولابد أن يكون المستقبل أفضل من الحاضر. ويقرران أن الحضارة الغربية ومنذ فجرها إلى بداية القرن العشرين كانت محكومة بفكرة واحدة هي التفاؤل الكبير بالإنسانية وبقدرة الغرب على تحسين العالم، فسيادة فكرة التفاؤل ما قبل القرن العشرين رفع من منسوب الفاعلية ومن فهم العالم الطبيعي والتحكم فيه أكثر. فالعالم يوجد في عقولنا كما يقرران، ومواقفنا من العالم هي التي تحدد وتغذي أعمالنا وتؤثر قويا في نجاحاتنا. ومستقبل الحضارة الغربية متوقف على درجة وثوقها بذاتها.
هذا التفاؤل سيتراجع في القرن العشرين بسبب هيمنة الكنيسة الرومانية وتقويضها لحكم الذات، وظهر تدين داخلي منكمش ودروشي. إضافة إلى الآثار الكارثية للحرب العظمى، والانهيار الاقتصادي 1929حيث ستغيب الموضوعية وسيضيع المعنى، كما أن اضمحلال الهويات الجماعية لصالح الهويات الشخصية سيؤدي إلى سقوط الثقة بالمجتمع.
إن العودة إلى مجد التفاؤل يحتاج إلى عملية تدوير فكرية وعلمية قد تحتاج إلى أجيال، ولكن الأفق لا يحمل أي بشائر بذلك.
في الفصل الرابع المخصص لركيزة العلم، يطرح الكاتبان السؤالين التاليين:
– لماذا كان العلم في ذروة أيامه احتكارا غربيا منذ 600سنة؟
– ما الذي يشرح هبوطه بعد انتصاره العظيم؟
ليكون الجواب هو ذلك الربط الميكانيكي بين مفهوم العلم والمعرفة التجريبة فقطد، بينما العلم الحقيقي مجموع المعارف المكتسبة عن العالم، مما يجعل من الحضارة عملا إنسانيا مشتركا، تتقاطع فيه حضارات مختلفة.
يريان أن المرة الأولى التي خطا فيها العلم خطوات جبارة في الغرب في القرون الوسطى مطلع العصر الحديث كان العلماء يعتقدون أن أسرار العالم يمكن الكشف عنها، لأنها أسرار غرسها الخالق القوي الذي يثقون به،فهي إذن موجودة حتما في الكون، ولعل ذلك مايفسر كون أهم العلماء الغربيين مسيحيين ملتزمين بالفعل. وبشكل عام، فالكاتبان يؤكدان أن التطور العلمي كان وراءه قيم الغرب العظيمة المتمثلة في المسيحية،والتفاؤل، والإنسانية والحرية والنمو الاقتصادي.
في القرن العشرين ستحدث الانتكاسة في المجال العلمي، حيث دخلت العلوم الصلبة في الغموض والريبة والاستغلاق والمصادفة، إلى درجة أن عبقريا مثل أنشتاين سيقول عن ميكانيك الكم: “أضاليل إنسان ذكي للغاية مصاب بجنون العظمة”
بالمجمل علم القرن العشرين لم يحافظ على بساطة العلم في رؤيته للعالم وفي رؤيته الدينية، لم يجمع بين البساطة والدقة التي ستساعد على فهم العالم. هذا ما دفع فرانسوا ليوتارد إلى القول : “إن العلم الحديث لا ينتج المعروف، ولكن غير المعروف”. وهذه التعقيدات جعلت العلم أقل جاذبية. لذلك يتساءل المؤلفان عن مصير العالم لو قدر للعالم الفذ نيوتن 1687 أن يكتشف النسبية وليس الجاذبية وقوانين الحركة، فهل كان الغربيون سيمتلكون الثقة لاختراع المحرك البخاري والسكة الحديد والكهرباء والسيارات والطائرات؟
العلم لم يعد متوافقا مع النظام الإلهي الخير ومع دور الإنسان باعتباره وكيل الله في خلق عالم أفضل.
والنظريات العلمية التي ظهرت في القرن العشرين، ومنها الداروينية التي عرضت رؤية لا يقبلها الله ولا البشر، كما أن التطورات غير المحسوبة للعلم شكلت اعتداءات على الإنسان والبيئة.
مع ذلك يقرر الكاتبان أن تراجع جاذبية العلم لن يوقف تطوره، بل سيتقدم بثبات ويخترق كل أركان الأرض والحياة. ولا بديل للعالم عن العلم الغربي، المدعوم بقوة من الأنظمة ماديا وسياسيا، وسيتحول العلم إلى مجرد وسيلة للربح والسيطرة، كما سيصير ترفا وذوقا للأقلية.
عند الحديث عن العمود الثالث: النمو
ركز المؤلفان على الجوانب السلبية التي أفرزها النمو الغربي غير المسبوق الذي انتشر في كل مكان باحثا عن المنفعة، حيث استغل الآلة لتدمير البيئة مما يفضي إلى الانتحار البيئي. لابديل لإيقاف هذ النزيف سوى اعتماد الاقتصاد المشخصن الذي يحسن الحرية ويفتح مجالات الإبداع والابتكار وأثره قليل على البيئة، لكن هذا البديل مستبعد حاليا، لأن ذلك سيستلزم تبني القيم الغربية واحتضانها كونيا، والعالم غير الغربي ليس مستعدا لذلك .
في الفصل المخصص للعمود الرابع الليبرالية يتحدث الكاتبان عن المنافع الكبرى غير المسبوقة لليبرالية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، لكن هذه الليبرالية تواجه اليوم ثلاثة تحديات كبرى: الأيديولوجيات المنافسة، والأعداء الخارجيون، ثم أعداء من داخل المجتمع اللبيرالي نفسه، وهذا الأخير أشد خطورة من سابقيه، ويتجلى في النزوع نحو الاستعمار الذي لطخ صورة أمريكا، وهيمنة وسائل الإعلام على الفضاء السياسي وما ينتج عن ذلك من عبث بالشعب وتوجيه له ، مما يجعل الحقيقة في مهب رياح الإعلام. كل ذلك سيجعل المعتقدات المشتركة تتلاشى، وستغيب القضايا الكبرى الملهمة التي يمكن أن تدفع المواطنين إلى عدم الاهتمام بالمصلحة الذاتية فقط.
العمود السادس والأخير هو الفردية: هذا العمود صفة خالصة للحضارة الغربية، وهو من العناصر الحاسمة في نجاح الغرب، وتقف خلف كل الصفات المميزة له وتوجهها وتؤثر فيها. يرى الكاتبان أن هذه الفردية تراجعت، وأصبح ذلك يشكل خطرا على المجتمع الغربي. ولا مناص للغرب من استرداد فرديته المفرطة التي كانت وراء إنجازاته الكبرى، وإن لم يحصل ذلك، وتم تعطيل هذه السمة فإن التكلفة ستكون نهاية الغرب وفرادته وتميزه عن غيره.
بعد الانتهاء من استعراض الأعمدة الستة التي شكلت الحضارة الغربية وميزتها ومنحتها التفوق على غيرها لفترة طويلة، من وجهة نظر الكاتبين، سيخلصان إلى مجموعة من الملاحظات والاستنتاجات المرتبطة بضعف حضور هذه الأعمدة أو تلاشيها وتراجعها. ومن ضمن هذه الخلاصات، كيف سيتعامل الغرب مع بقية العالم؟
الواقع يؤكد أن الشعوب غير الغربية غير مستعدة تماما للتخلي عن هويتها وخصوصياتها للانصهار في ثقافة الغرب وحضارته، إذن فهي لن تقبل ذلك طوعا. كما أن فرض ذلك قسرا، بالإضافة إلى كونه حلا غير عملي وغير مجدي، سيدخل قيم الليبرالية الغربية في معمعة التناقض. نعم تستطيع أمريكا أن تفرض سلطتها بالقوة، ولكن حضارة الغرب ستفقد أهم مقوماتها وبريقها الجذاب وهو الحرية.
يقترح الكاتبان بديلا عمليا معقولا في نظرهما وهو: احترام الاختلافات الثقافية، وممارسة الصبر، وطول النفس، والحرص على إعطاء المثال والقدوة للأفكار الغربية المجيدة، وممارسة سياسة خارجية مبنية على الجذب، وسيسمح له ذلك بصناعة أنصار ومشايعين بدل زرع الكراهية وجني العداوات.. لكن هذا البديل،على وجاهته، خيار صعب نظرا للطبيعة العدوانية المتأصلة في كيان الدول القوية، وتاريخ الغرب شاهد على ذلك.
في الختام يخلص المؤلفان إل أن الحضارة الغربية في مفترق طريقين: يوجد على جانب من هذا المفترق أخلاق الأناية المركزية المتوحشة والعدوانية، يمكن للغرب أن يمضي في هذه الطريق، لكن ذلك سيؤدي إلى فاشية جديدة تحول الغرب وأمريكا إلى امبراطورية استعمارية جديدة، وسيكون ذلك مؤشرا على انهيار وشيك لا محالة، تكون ارتداداته الداخلية مدمرة أكثر من الارتدادات الخارجية.. !
في الجانب الآخر من المفترق، آفاق وردية تطبعها السعادة والتفاؤل في مستقبل مشرق من خلال تعاون أمريكي أوروبي يرسخ قيم التسامح والرحمة والمساواة والتفاؤل والفردية الإيجابية. يمكن للغرب أن يسلك هذا الطريق الواضح والسالك، ولا يتطلب الأمر سوى قرار سياسي شجاع لتغيير الاتجاه.
ويتساءلان بلهجة تشكيكية واضحة، هل ستقرر الحضارة الغربية القرار الصحيح للحفاظ على تلك الأعمدة الستة، أو تدويرها وإصلاحها نحو الأفضل؟ خاصة أنها مؤهلة كي تتحول إلى حضارة عالمية، وإلا ستصبح غير جذابة وأقل نجاحا إذا لم تختر على أساس صحيح.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق