المقالات

في العلاقة بين المصطلح الأصولي والدرس الفقهي دراسة تطبيقية للمؤول في المذهب المالكي:(عبد الإلاه بالقاري) _1_

يستمد البحث في الصلة بين المصطلح الأصولي والدرس الفقهي أهميته ويثبت جدوى الاعتناء به من كون اعتبار علم أصول الفقه أرحب مجال عبر من خلاله العلماء عن قدرتهم على التفكير المنهجي المنظم، وذلك بفضل ما ضمنوه من قوانين جامعة وقواعد ضابطة، فقد استطاع هذا العلم أن يضع نظرية متكاملة في تفسير النص وتأويله؛ لأنه يؤسس منهج النظر في النص والاستنباط منه على قانون علمي صارم ومضبوط، ولذلك عوّل أرباب الفقه أثناء تطبيق الأحكام الشرعية على أفعال الناس وأقوالهم على ما قعده الأصوليون من قواعد كلية  وأصول شرعية، إذ إن التقيد بهذه الأصول يعدّ  بالنسبة لفقهاء الشريعة الغراء عملا ملزما لكل قراءة تتوخى الضبط والسلامة في التفسير والتـأويل، وبالمقابل فإن تخطي هذه القوانين والقواعد والتحلل من هذه المقتضيات والضوابط سيفضي إلى قراءة محرفة؛ وهي كل قراءة تبعد النص عن دلالاته الحقيقية. 

وهكذا نلمس بوضوح العلاقة الكائنة بين علم أصول الفقه وعلم الفقه، وسنعمل في هذه الدراسة الوجيزة على إبراز العلاقة بين هذين العلمين من خلال تطبيقات فقهية للمؤول في تراث مذهبنا المالكي، ولذلك عنونتها بـ “في العلاقة بين المصطلح الأصولي والدرس الفقهي: دراسة تطبيقية للمؤول في المذهب   المالكي“.

 جاء هذا المكتوب بعد هذه المقدمة في ثلاثة مباحث وخاتمة، عرفت في المبحث الأول بالمؤول في اللغة وفي اصطلاح أهل الأصول وذكرت أنواعه على وجه العموم، واهتممت في المبحث الثاني ببيان دليل التأويل، وجعلت المبحث الأخير لبعض التطبيقات الفقهية للمؤول في المذهب المالكي، وخصصت الخاتمة لبعض الخلاصات.

_ التأويل تعريفه وأنواعه:

_ التأويل في اللغة

تتسع دلالة التأويل في اللغة لتشمل عدة معان، منها:

الرجوع والعاقبة: جاء في العين: “آل يؤول إليه، إذا رجع إليه”[1].

التفسير: جاء في تاج العروس: “وأول الكلام تأويلا وتأوله..فسّره”[2]. وقال الجوهري: “التأويل: تفسير ما يؤول إليه الشيء”.[3]

السياسة: جاء في معجم مقاييس اللغة، تقول العرب في أمثالها: “(أُلنا وإيل علينا) أي سُسنا وساسنا غيرُنا.. وقال الأصمعي: آل الرجل رعيته يؤولها؛ إذا أحسن سياستها”[4]

الإصلاح: جاء في اللسان: “وآل ماله يؤوله إيالة؛ إذا أصلحه”[5].

ويتضح من مجموع المعاني السابقة أن الأصل في معنى التأويل المرجع والعاقبة، أو الرجوع بالأمر أو النص لتبيين المراد الذي سيق لأجله، وكأن المؤوِّل أرجع الكلام إلى ما يحتمله من معانٍ، كما يأتي التأويل بمعنى السياسة، وكأن المؤول كالمتحكم السائس على الكلام، المتصرف فيه حتى أصبح قريبا إلى الأذهان.

_ التأويل في الاصطلاح

التأويل عند علماء السلف من أهل الفقه والحديث والتفسير يرادف التفسير والبيان، قال ابن القيم: “التأويل في اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث فمرادهم به معنى التفسير والبيان”[6]، وهذا ما درج عليه الإمام البخاري في صحيحه[7] كقوله: باب تأويل قوله تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين)[8]، وكذلك فعل الطبري في تفسيره، حيث يذكر عند تفسير كل آية عبارة: القول في تأويل قوله تعالى ثم يفسر الآية، ومن ذلك على سبيل -التمثيل لا الحصر- قوله: “القول في تأويل قوله تعالى (ما ننسخ من آية) [9][10].

أما عند كثير من المتأخرين؛ فالتأويل عندهم بالمعنى الأصولي، قال ابن تيمية: “اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله: أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح؛ لدليل يقترن به”[11].

وتجدر الإشارة أن جمهور الأصوليين درجوا عند كلامهم عن المؤول على تفسير التأويل دون المؤول[12]، والذي دعاهم إلى ذلك هو أن التأويل أكثر استعمالا من المؤول، قال التفتازاني: “المشهور حسب الاستعمال هو التأويل دون المؤول”[13]. وحاصل الأمر فإن الأصوليين حينما يفسرون لفظ التأويل؛ فإنهم يقصدون به المؤول.

قال الباجي رحمه الله: التأويل صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله”[14]، ومعنى ذلك أن يكون اللفظ محتملا لمعنيين أو أكثر، فإذا كان المعنى أظهر في اللفظ إما لوضع أو استعمال أو عرف، وجب حمله على ظاهره؛ إلا أن يرد دليل يصرفه عن ذلك الظاهر إلى بعض ما يحتمله عبر مسلك التأويل.

 وقالابن الحاجب التأويل: “حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، وإن أردت الصحيح زدت بدليل يصيره راجحا”[15]. وهذا التعريف هو المشهور في اصطلاح جمهور المتكلمين، فإنهم عند تعريفهم التأويل إنما يريدون به التأويل الصحيح دون غيره، ثم إن النظر في هذا التعريف يكشف لنا أمورا عدة، منها:

  إن ما لا يحتمله اللفظ أصلا لا يسمى تأويلا.

  إن قوله رحمه الله “حمل الظاهر” إشارة منه أن النص لا يحتمل التأويل عند المتكلمين.

  تقييده التأويل بالحمل على المرجوح؛ لأنه إذا حمل على الراجح يسمى ظاهر لا مؤولا.

_ أنواع التأويل:

ميز الأصوليون بين أنواع التأويل تبعا لحكمهم الصادر في حق الدليل الذي يستند عليه، فالتأويل عندهم بشكل عام إما صحيح أو فاسد.

التأويل الصحيح: وهو التأويل الذي يصار إليه بحمل ظاهر اللفظ إلى المحتمل المرجوح بدليل يصيره راجحا[16].

ويندرج تحت هذا القسم كل تأويل رضي عنه الواصفون للتأويل، ومن أمثلة التأويل الصحيح: تخصيص عموم المطلقات[17] في قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)[18] بقوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن)[19]. وكذلك تخصيص عموم البيع في قوله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا)[20]، بالأحاديث التي تنهى عن جملة من البيوع، كبيع الثمار حتى تزهى[21]، والمنابذة والملامسة[22]، وبيع حبل الحبلة[23].

التأويل الفاسد: هو التأويل الذي يصار إليه بدليل يظنه المؤول دليلا وليس بدليل في نفس الأمر[24].

وإن كان دليل التأويل مرجوحا أو مساويا كذلك فهو فاسد[25].

ومن أمثلة التأويل الفاسد نذكر:

أولا: ما روي عن ابن عباس “أن قدامة بن مظعون، شرب الخمر بالبحرين فشهد عليه ثم سئل فأقر أنه شربه، فقال له عمر بن الخطاب: ما حملك على ذلك، فقال: لأن الله يقول: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات)[26]، وأنا منهم أي من المهاجرين الأولين، ومن أهل بدر، وأهل أحد، فقال: للقوم أجيبوا الرجل فسكتوا، فقال لابن عباس: أجبه، فقال: إنما أنزلها عذرا لمن شربها من الماضين قبل أن تحرم وأنزل (ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان)[27]، حجة على الباقين ثم سأل من عنده عن الحد فيها، فقال علي بن أبي طالب: إنه إذا شرب هذي، وإذا هذي افترى فاجلدوه ثمانين”[28].

فابن مظعون رضي الله عنه بنى جواز شرب الخمر على ما ظنه دليلا وليس بدليل في نفس الأمر، فكان تأويله فاسدا؛ لذلك خطأه عمر رضي الله عنه، إذ قال له: “أخطأت التأويل، إن اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله عليك”[29].

ثانيا: ما رُوي عن الحجّاج في مقتل سيدنا عبد الله بن الزبير، حين قال لأمّ عبد الله أسماء رضي الله عنهما: “إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله تعالى (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم)[30]، وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم.

وهذا تأويل فاسد للآية الكريمة؛ لأنه في منتهى التلاعب بالكلمات القرآنية، ولذلك أجابته رضي الله عنها قائلة: “كذبت، كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنكه بيده وكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحا به، وقد فرحت أنت وأصحابك بمقتله، فمن كان فرح يومئذ بمولده خير منك ومن أصحابك، وكان مع ذلك برا بالوالدين صواما قواما بكتاب الله، معظما لحرم الله، يبغض من يعصى الله عز وجل.. فانكسر الحجاج وانصرف”[31].

ثالثا: تفسير قوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)[32]، قال المعتزلة في تفسير هذه الآية، -والتي تثبت رؤية الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة- إن النظر إلى الله تعالى معناه “التوقع والرجاء”[33]. أي أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه.

وهذا تأويل يعدل بالآية عن ظاهرها، فرارا من إثبات الرؤية، وهو تأويل فاسد، ولو أن المعتزلة ركنوا إلى الأحاديث الصحاح في باب الرؤية لأغناهم ذلك عن هذا التأويل الباطل.

رابعا: ما ذكره الشاطبي عن “بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي المسمى بالمهدي حين ملك إفريقية واستولى عليها؛ كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره، وكان أحدهما يسمى بنصر الله، والآخر بالفتح؛ فكان يقول لهما: أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه فقال: (إذا جاء نصر الله والفتح)[34][35].

خامسا: ما ذكرته آمنة ودود في تفسير كلمة “الضرب” الواردة في قوله تعالى (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن)[36]، قالت: “كلمة الضرب لا تعني بالقوة أو العنف، وقد تم استخدامها في القرآن على سبيل المثال في عبارة: (ضرب الله مثلا..)، كما تم استخدامها أيضا عندما يهاجر المرء أو يضرب في الأرض”[37].

قال الدكتور قطب الريسوني معقبا: “وهذا منتهى التلاعب بالمفردة القرآنية، تلوذ به الكاتبة لواذا لعلها تجد مخرجا من ضائقة غمز القرآن الكريم بالتحريض على القوة والعنف، وهذا المقصد -على نبله- لا يشفع لهذا التحريف؛ لأن الوسيلة إليه باطلة، تفرغ المصطلح القرآني من مدلوله الحقيقي، وتحرف الكلم عن مواضعه”[38].

وقمين أن أذكر في هذا المقام، أن آمنة ودود، وغيرها من زعماء المدرسة العقلانية المعاصرة[39]، يتلخّص مسلكهم في تأويل النص الشرعي في تغيير مدلولات الألفاظ الشرعية، وقلب حقائقها، “فتارة يوسعون دلالة لفظ من الألفاظ، وتارة يضيقونه، وتارة يبدلون معناه الشرعي، أو الفقهي، متوسلين إلى ذلك بعشرة أوهام واعتبارات نفسية، وقد يشغبون أحيانا بشبهات يسوقونها على تكلف، والأدلة الشرعية واللغوية قائمة تصدها، وتحكم عليها بالسقوط”[40].

واعتمادا على هذا المسلك الخطير؛ نفى هؤلاء جل الحقائق الشرعية المستفادة من الألفاظ التي خصها الشارع لها.

وهكذا نجد مثلا، عبد المجيد الشرفي يعقد فصولا في كتابة “الإسلام بين الرسالة والتاريخ” لإبطال الحقائق الشرعية واجتثاتها من أصولها، لهدم شريعة الإسلام، حيث ذهب -على سبيل التمثيل لا الحصر- إلى أنه لا يتعين على المسلمين الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أداء الصلاة، قال: “والمهم أن النبي كان يؤدي صلاته على نحو معين، فكان المسلمون يقتدون به، إلا أن ذلك لا يعني أن المسلمين مضطرون في كل الأماكن والأزمنة والظروف للالتزام بذلك النحو”[41].

وإن مما يتعين تأكيده في هذا السياق أن الحقائق الشرعية لا تتغير متى علم كونها ثابتة بالأدلة الشرعية وإن تغيرت أحوال الناس، وتبدلت أوضاعهم التي يسري عليها حكم ذلك اللفظ.

ولهؤلاء المؤولة الجدد طوامّ وخيالات يسمونها فكرا، يشغبون به على الشريعة الإسلامية، ويرون أنها إنتاجات معرفية لحل الأزمة الفكرية، وتحقيق الشهود الحضاري!


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق