المقالات

في الحاجة إلى المنهاج النبوي(يوسف بربيط) (2/2)

ورث الصحابة رضي الله عنهم الهدي النبوي كاملا فاعلا عمليا؛ لأنهم شهدوا التنزيل والوحي الإلهي يسدد مسيرتهم، وعاينوا الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وصحبوه وعاشروه حتى كان أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم، وأخذوا عنه الإيمان والعلم والجهاد، وعاصروا سيرته عليه السلام وتتبعوا أحوالها ودقائقها، وتشبعوا بهديها وأنوارها، وفهموا مقاصدها وغاياتها، وتمثلوا المنهاج النبوي علما وفقها، فهما وتنزيلا، تحملا وأداء، نصا واجتهادا، عبادة ونظاما، دعوة ودولة.

    كان الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام رضي الله عنهم جميعا مثالا رائعا في التأسي والاقتداء بالنبوة، والبناء على هديها في التربية والدعوة والجهاد…مع الاجتهاد في الحوادث والنوازل الطارئة الفردية والجماعية بنظر مصلحي واقعي أصيل، وعقل مقاصدي مبدع سديد، واجتهاد كلي جماعي رشيد…كانت الطريقة واضحة أمامهم، فساروا على سنن هذه المحجة البيضاء اللاحبة، وبدأوا يمارسون “مسؤوليتهم على ضوء الثوابت الإلهية، لأول مرة؛ فعلموا وتعثروا. طبقوا ما كانوا تلقوه من وحي، واجتهدوا بما لم يأت به خبر السماء، فأصابوا في معظم الأحيان وأخفقوا في أقلها وهم في كلا الحالتين ماضون في طريقهم الصاعد، محدقين في المستقبل بأعين ملأتها آيات الحكم المبين…”[1]

   ثم ما لبثت تلك الطريقة الواضحة الناهجة أن تعتمت وتجزأت؛ أول ما تعتم منها الحكم بتحوله من خلافة راشدة على منهاج النبوة إلى ملك عضوض وراثي كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الخلافة الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح، قال صلى الله عليه وسلم: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة. ثم سكت.” وتوالى التعتيم والتشويش والتمزيق حتى ضاعت المحجة البيضاء، وانحرفت الأمة –تدريجيا – عن الجادة والسنة الكاملة.

    أصيب البناء النبوي الراشدي بأول نقض له بتحول الحكم من شورى وعدل وإحسان إلى استبداد وظلم وقهر وتنازع على الدنيا؛ فكانت هذه هي الصدمة الأولى التي هزت البناء وزعزعته، وجعلت فيه شروخا وأنكاثا كما أخبر بذلك الصادق المصدوق في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني بسند حسن عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبت الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة”

   كانت النتيجة الطبيعية لهذا التحول والانكسار أن تجزأ وتفرق المنهاج النبوي –الذي كان كاملا مجموعا في عهد النبوة والخلافة الراشدة كما سبقت الإشارة إلى ذلك-بتفرق المسلمين إلى طوائف (أهل السنة والجماعة، الخوارج، الشيعة،…) ومذاهب (أهل الحديث، الفقهاء، الصوفية، السلفية،…) وبتجزؤ العلم (علم الكلام، الفقه، السلوك، الأصول،…) وبانفصال الدعوة عن الدولة، والقرآن عن السلطان، بل إن التجزؤ أصاب حتى شخصية الفرد (العقل، القلب، العمل…)، يقول الأستاذ ياسين:” ذهبت الشورى مع ذهاب الخلافة الراشدة، ذهب العدل، ذهب الإحسان، جاء الاستبداد مع بني أمية، ومع القرون استفحل، واحتل الأرض، واحتل العقول…واغتيل الرأي الحر، وسد باب الاجتهاد. وفي ظلها وفي خفاء الصراعات تكونت المذاهب الدساسة، وتمزقت الأمة سنة وشيعة، وتشتت العلم مزعا متخصصة عاجز فيها أصحاب التخصص عن النظرة الشاملة. لا يجسر أحد على بسط منهاج السنة والقرآن مخافة السلطان”[2].

   “كانت صفين مدخلا للانتقال من منظومة أخلاقية هي قيم التعاقد السياسي الإسلامية، إلى منظومة قيمية مغايرة تماما هي قيم التملك والقهر، الانتقال من “جو المدينة” إلى “جو دمشق” حسب تعبير مالك بن نبي. فلم يكن انتقال مركز الدولة الإسلامية من المدينة إلى دمشق انتقالا جغرافيا فحسب، بل كان تحولا أخلاقيا شاملا من قيم الخلافة إلى قيم الملك…

   ولم تكن صفين مجرد شقاق سياسي أو وقعة عسكرية، بل كانت صدعا في جدار الأمة الإسلامية، وشرخا في قلبها، ظل يتسع على مر القرون حتى أودى بها في نهاية المطاف”[3]

   لقد مثل هذا التراجع عن المنهاج النبوي الراشد في الحكم بداية التحلل والنقض في عرى المنهاج ومعاقده وأصوله وخصاله. ومنذ تلك اللحظة التاريخية المفصلية بدأت الأمة تبتعد عنه تدريجيا-وإن استمرت في الإنتاج العلمي والعطاء الحضاري ونشر الإسلام وتوسيع الفتوحات-وتنحرف عن جادته، ومع مرور الزمن كبر هذا الانحراف واستفحل، وتعتم ذلك الطريق الناهج، والسبيل القاصد، وتنكبت عنه الأمة وتخلت؛ فتحولت إلى أمة غثائية ضعيفة، مهانة ذليلة، قصعة للآكلين كما أخبر بذلك الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود والإمام أحمد بسند صحيح:” يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها‍‍!  فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ فقــــال صــلى الله عليه وسلم: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن! قال قائل: يا رسول الله ‍‍‌ وما الوهن؟ قال صلى الله عليه وسلم: حب الدنيا وكراهية الموت”.

    ومنذ ذلك الحين – وطوال تاريخنا الفتنوي – عاشت الأمة وماتزال أزمة منهاج؛[4] أزمة عقل ونقل وإرادة. أزمة تلقي وفهم وتطبيق. واستمرت هذه الأزمة تتسع يوما بعد يوم، والسوس ينخر البناء رويدا رويدا، والتمزق يتضاعف حتى انحطت أمة الشرعة والمنهاج وتقهقرت، وأصابها وهن الغثائية وداء الأمم؛ فتكونت لديها القابلية للاستعمار والتبعية، والرضى بالمهانة والدونية…

    وعندما اشتدت الأزمة بالأمة من كل جوانبها، كأنها ظلمات بعضها فوق بعض، نهض علماؤها ومصلحوها ومفكروها للإجابة عن السؤال العريض الذي طرح منذ فكر النهضة “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”. تعددت وتناقضت المدارس والاتجاهات المجيبة عن هذه الإشكالية، فمن فكر “المقاربات” إلى فكر ” المقارنات” إلى فكر” الحداثة” إلى مشروع “أسلمة المعرفة”…ومن تجارب “الحركات اليسارية” إلى تجارب ” الحركات القومية” إلى تجارب ” الدولة الوطنية” إلى تجارب “الحركات الإسلامية” إلى تجارب “الثورات العربية”…

    إذا كانت أغلب الدراسات ومشاريع النهوض والتقدم تجمع أن الأمة تعيش أزمة، فقد اختلفت في تحديد طبيعتها (عقدية، فكرية، تربوية، سياسية، حضارية…) والأسباب والعوامل التي أدت إليها، ومن ثمة طبيعة المشروع المنشود: مرجعتيه، أهدافه، أولوياته، وسائله… فلم تقد هذه الجهود والطاقات والتضحيات إلى الخروج من الأزمة، بل عمقتها. والقليل من هذه الاجتهادات من بحث في السؤال العريض العميق المؤسس “سؤال المنهاج”.

                                4-الأهمية الوظيفية للمنهاج النبوي

   إن الحاجة ماسة اليوم، أشد من أي وقت مضى، خاصة بعد تجارب الحركات الإسلامية المتنوعة ومشاريع الإصلاح والنهضة المتعددة والتحولات الهائلة التي عرفها عالم اليوم، إلى اللجوء للمنهاج القرآني النبوي الكامل الخالد المتجدد – المكنون في الكتاب المجيد والثاوي في السنة المطهرة-واتباع محجته البيضاء الواضحة، والتأسي بهداياته المنيرة المستقيمة، وتجديد بلاغاته البينة المبينة، وإحياء رسالاته الرحيمة في واقعنا الفتنوي، وتحقيق مناطاته الخاصة والعامة حالا ومآلا. ولن يتحقق كل هذا إلا عن طريق:

 – اكتشاف أصول المنهاج ومقاصده، خصوصيته وأسراره في التربية الإحسانية، وشروط السلوك الإيماني وخصاله وشعبه؛

 -قراءة مفرداته وعناصره بفقه إيماني كلي متجدد، وبنظر مقاصدي حركي مسدد، يتجاوز النظرة الجزئية الضيقة لبعض الفروع الشرعية والأحكام التفصيلية إلى الفهم الشمولي للإسلام الذي يضع كل منها-أي الأحكام الجزئية-موضعها في البنية الإسلامية السليمة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وعالميا[5]

-صياغته في رؤية كلية علمية وعملية شاملة تجلي مقاصد الوحي (القرآن والسنة) ومطالبه في نسقية ناظمة لكل جزئيات الدين (العبادية، الأخلاقية، الاجتماعية، الاقتصادية…)، وجامعة لمقاماته الثلاث (الإسلام، الإيمان، والإحسان) حتى يسلك جيل الصحوة الإسلامية مسلك الإيمان والإحسان والجهاد تماما كما سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من قبل.

-صياغته في خطاب شمولي واضح ومعاصر يجيب عن أسئلة وقضايا الواقع الإنساني الراهن بظروفه وإكراهاته ومطالبه وتحولاته، ويرسم مسارا ممكنا للمستقبل عبر عقبات ومنعرجات   الواقع المحلي والعالمي، ويقدم رؤية واضحة لأهداف الإسلام في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية وفي كل الميادين؛

-تنزيله في مشروع جماعي جهادي، وبرنامج عملي مفصل متدرج يحدد الأهداف والمقاصد بدقة وبصيرة، ويرتب المراحل اللازمة للوصول إلى الأهداف بعلم وحكمة، ويستحضر الوسائل الموصلة إليها بوعي ومرونة، ويراعي ما يقتضيه التنزيل والتطبيق من تدرج وصبر وتعبئة، وتوحيد للجهود، وإشراك للجميع في عملية التغيير والبناء؛

   نحتاج اليوم لمنهاج إيماني كلي بنائي، يستمد أصالته من القراءة الجامعة المتوازنة للوحي المسطور والكون المنشور، ومن الدراسة الواعية المتفحصة للتراث الإسلامي دون جمود أو جحود. وينفتح أفقه باستيعاب السقف العلمي والحضاري للعصر دون تغريب أو تلفيق، وينمي كفاءته بالتجربة والممارسة العملية والاستفادة من الخبرات الإنسانية النافعة.

   تحتاج الأمة والإنسانية إلى منهاج قرآني في مرجعيته، نبوي في محجته، مستقيم في طريقته، رباني في وجهته، فطري في طبيعته، إنساني في مضمونه، إحساني في غايته، استخلافي في مقصده، نسقي في صياغته، حكيم في عرضه، رحيم في نهجه، واقعي في طرحه، اقتحامي في تنزيله، مبدع في أساليبه، مرن في وسائله.

   منهاج يضع العمل الإسلامي والحركي في نسق منتظم يرتب الوسائل لتبلغ الأهداف، ويرتب المراحل والأولويات، ويترك في حسابه مكانا للمرونة عند الطارئ المفاجئ والضرورة الغالبة، ويساعد على الرؤية الواضحة للأحداث والتحولات ومساراتها، واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب وبالشكل المناسب وإلا تعرض العمل للفشل أو الاضطراب أو التخبط، ويعالج كل القضايا بشمولية وعمق واستيعاب لكل جوانبها ومؤثراتها.  

   منهاج يوجه الحركة اليومية، ويرشد العمل الميداني ليكون نافعا يشق الطريق إلى العمل، قاصدا يبتعد عن التخبط والزلل، وبانيا يستشرف المستقبل. ويجعل كل خطوة ميدانية تسير بنا على درب العمل الجهادي الكلي مما يساهم في تكوين القوة الفعالة في التغيير، ويقوي تياره، ويوسع مجاله، ويحقق أهدافه، “لأن العمل الميداني إن لم يدخل في خطة محكمة لها وجهة مدروسة، وغاية معروفة، وأهداف مرحلية وقسمة للمهام بين فئات جند الله، لن يؤدي لتأليف قوة التغيير المرجوة وإن انتهى إلى تكوين تكتل ذي حجم”[6]  

   منهاج يستوفي شروط اليقظة المطلوبة والقومة المرغوبة في كل عمل تجديدي كامل، ينظر لحركة الإسلام المنبعث في الزمن الراهن، ويخطط لهندسة التربية والتنظيم والزحف والبناء، ويطمح لإحداث تغيير جذري عميق وواسع في الأنفس والآفاق، وصناعة تاريخ جديد، ونمط حضاري رشيد، ينتشل الإنسان من بؤسه وفقره، وطغيانه واستكباره، وعبثيته واضطرابه، إلى رحابة العيش الكريم، والحرية المضمونة، والعدالة المكفولة، والأخوة الحانية، والدعوة الرحيمة في ظل خلافة راشدة مهدية يرضى عنها ساكن الأرض وساكن السماء.

خاتمة

   المنهاج شرعه الله تعالى، وبينته السنة النبوية، ونزلته السيرة العطرة، وسار على هديه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، ويكتشفه ويحيه وراث النبوة وأمناء الرسالة بعدما جزأه وفرقه سوط العض والجبر، وطوق التقليد والجمود.

   والمنهاج القرآني النبوي الكامل في التربية والبناء، الجامع في الفقه والفهم، والشامل في الدعوة والجهاد، تحتاج الأمة الإسلامية –بل الإنسانية جمعاء-إلى اكتشافه وفقهه وتمثله والتربية عليه والدعوة إليه. “فالمسلمون بحاجة اليوم لاكتشاف المنهاج النبوي كي يسلكوا طريق الإيمان والجهاد إلى الغاية الإحسانية التي تعني مصيرهم الفردي عند الله في دار الآخرة، وإلى الغاية الاستخلافية التي ندبوا إليها ووعدوا بها متى سلكوا على المنهاج واستكملوا الشروط.”[7]“إلا أن اكتشاف نموذجية الرسول وصحبه واكتشاف المحجة البيضاء ما اختلف فيه وعجز عنه المسلمون إلا لقصورهم في آلة البحث والاستكشاف”[8]


[1] الوزير، زيد بن علي، الفردية، مركز التراث والبحوث اليمني، ط1، 2000، ص114

[2] ياسين، عبد السلام، نظرات في الفقه والتاريخ، مطبعة فضالة المحمدية، ط 1، 1989، ص 10

[3] الشنقيطي، محمد المختار، الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية، من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي، منتدى العلاقات العربية والدولية قطر، ط 2، 2019، ص 67 بتصرف شديد.

 سنتطرق في المقال المقبل “أزمة منهاج” لطبيعة هذه الأزمة وأسبابها وجذورها وعلاجها بإذن الله.[4]

[5] مجلة الجماعة، ع4، ص51.

[6] المنهاج النبوي، ص217.

[7] المنهاج النبوي، ص 11.

[8] ياسين، عبد السلام، الإسلام غدا، مطابع النجاح الدار البيضاء، 1973، ص 775.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق