المقالات

عندما يتمرد السوق على السوق(يحيى اليحياوي)

السوق، أيا تكن طبيعته ومواصفاته، هو بالمحصلة فضاء للتبادل وتصريف فوائض القيمة. هو ليس طرفا مباشرا في الإنتاج، لكنه جزء “أصيل” من عملية التراكم ودورة رأس المال. إنه “الساحة” التي تتمظهر بها كل التدافعات، وتتشكل عبرها كل التعاقدات والتحالفات، وتبرز على سطحها، بجلاء أو من خلف ستار، موازين القوى بين الفاعلين.

ولذلك، فهو لا يستقر على حال، لأن من طبائعه اللاستقرار والاضطراب، وإن تسنى له أن يدرك التوازن، فلا يكون إلا توازنا جزئيا، مؤقتا وعابرا. الاستقرار الكلي هو حالة استثنائية بالسوق. الأصل فيه هو عدم الاستقرار، لأنه من بنيته وبنيانه.

السوق لا يعرف السكينة، إذ ثمة دائما ما يدفع بجهة زعزعة هيكله وهياكله، إذا لم يكن بمستجد تكنولوجي يقوض الوضعيات المستقرة به، فبإبداع تجاري يعيد تشكيل منظومة الأسعار، ويدفع الفاعلين لاصطفافات قسرية قد لا ترضيهم.

يرتد السوق على السوق عندما يتجاوز البعض على البعض بسلوك يقوض أسس المنافسة بين المتبارين، أو جراء فعل يكون من شأنه الإضرار بمقومات السلعة، ومن ثمة بمقومات السوق التي هي مركزه، وسيلته وغايته.

علل السوق هي من علل الليبيرالية. هي تنفخ فيه من روحها، وهو يتكفل بتجسيد ذات الروح لحما وعظما. هي تباركه بعد ذلك، وهو يمنحها تعبيراتها، ويفسح في المجال لرواج “قيمها” وتعميم منطق السلعة الذي هو مادتها وموضوعها.

بيد أن السوق، في رفعه من مقام السلعة وجنوحه المستمر بجهة تسليع كل الفضاءات الأخرى، إنما يذهب أبعد من فضائه. إنه يصادر تميز باقي الفضاءات ويرهن تمايزاتها، باسم الإنتاجية والربحية وضبط التكاليف تارة، وباسم الحرية في الحركة بين الفضاءات تارات أخرى.

يتمرد السوق على السوق في حالات عدة:

°- أولاها، استبداد البعد المالي الخالص على دورة الإنتاج وعلى مسلسلات إفراز فائض القيمة. تكاد “الآلة المالية” تدور والحالة هذه، دون الحاجة إلى مرتكز مادي. إنها تدور باستقلالية تامة عن مستويات الإنتاج، كما لو أنها من نطاق والإنتاج من نطاق آخر مختلف.  المال هنا، عوض أن يكون أداة إنتاج للسلعة، أضحى هو السلعة، لا بل هو القائم مقام فائض القيمة نفسها.

تمرد السوق وارتداده على ذاته يتمثل، في هذا الباب، في انفصال بعد (البعد المالي) عن الدورة الإنتاجية التي كان دائما جزءا أصيلا منها، لكنه زاغ و”استقل”. رأس المال (إذا كان لا يزال للكلمة من معنى حقا)، لم يعد وسيلة، بل بات ذاتا قائمة، يتنقل بين البورصات حيث الربح سريع، قد يبلغ أضعاف أضعاف ما قد يتحصل عليه إن هو بقي “ملتزما” أو على “عهدته” مع مسلسل إنتاج السلعة. إنه يفضل مردودية مضمونة قد تصل 15 بالمائة بالبورصات، على “المقامرة” في مردودية غير مؤكدة، وبكل الأحوال لن تتجاوز 5 إلى 6 بالمائة بالقطاع الإنتاجي “التقليدي”… ويفضل، فضلا عن ذلك، حرية واسعة في الانتقال بين الشبكات الرقمية، على شكل تيارات مضارباتية عابرة للحدود، عوض “الاستثمار” في سلع تبقى وطنية في أصلها، ولا تستطيع بلوغ الأسواق إلا مقابل ترتيبات وضرائب وجمارك ومسالك في التوزيع معقدة.

يبدو الأمر هنا كما لو أننا بإزاء انتفاضة المال على رأس المال، أو لنقل تمردا من لدنه على منظومة ضاق بها، ولم تعد قادرة على مطاوعته أو مجاراته. إنها “محكومة” بنظره، فيما يتطلع هو كي يكون الحاكم. هي تقاد بمستويات إكراه كبرى، فيما يريد هو أن يقود دون إكراه من أحد.

°- وثانيها، هيمنة الدولي والكوني على ما هو من مجال المحلي أو الوطني. لم يعد السوق من هذا المنطلق، محكوما بفضاء جغرافي صاحب “سيادة”، أو بعملة وطنية نافذة ببنك مركزي صارم، أو بسياسة اقتصادية جامعة، بل تمرد عليها جميعا ليتخذ من الكوكب وطنا له (وطنه الجديد)، استثمارا وإنتاجا وتسويقا لفائض القيمة.

لقد بات رأس المال مهووسا بتقليص الكلفة على مستوى اليد العاملة والمواد الوسيطة. لذلك تجده لا يتردد في تحويل كل “أنشطته الوطنية” لفائدة المجالات حيث كلفة الإنتاج منخفضة وتكاليف التوزيع متدنية، دون أدنى اعتبار لذاك المستوى الوطني الذي كان، ولعهود طويلة مضت، يحكمه أو يوجهه أو يمثل له الخيط الناظم في حله وترحاله.

نحن هنا أيضا بإزاء حالة تمرد حقيقية للسوق، لم يعد متماهيا في سلوكه، مع “تقاليد” كانت في زمن ما، ترسم له التوجه وتحدد له المسالك والآفاق.

لا يقتصر تمرد السوق على مجرد غض الطرف من لدنه على مرجعيته الوطنية التي “اشتغل” في إطارها حتى تصلب عوده، بل يتعداه لدرجة غضه الطرف أيضا عما قد يترتب عن سلوكه “الجديد” من إضرار ب”المصلحة الوطنية” ذاتها، إن هي تعارضت مع مصالحه أو لم تجاريه فيما أقدم أو يتطلع للإقدام عليه في الزمن والمكان. لا يعنيه كثيرا مآل المقاولات “الوطنية” المرتبطة به، ولا مصير اليد العاملة التي ربطت مستقبلها بمستقبله، تماما كما لا تعنيه مناصب الشغل التي قد تتضرر بجريرة قراراته تحويل جغرافيا الإنتاج، أو توقيف سلاسل الإنتاج أو عقلنة التدبير الذي بات يتم من وراء وعبر الحدود.

°- وثالثها، تغيير طبيعة ومضمون السلعة نفسها. إذ لم يعد بإمكان المستهلك جراء ذلك، أن يميز في السلعة بين ما هو إنتاج “طبيعي” بالمعامل، وما هو إفراز هجين للسلعة ذاتها بالمختبرات.

لا يروم التلميح هنا إلى “السلع” المعدلة وراثيا بتدخل صناعي في جينات المنتوج، بل أيضا إلى تلك السلع التي باتت تستخرج من خلايا نباتية وحيوانية، لم يعد ثمة من رادع لتصنيعها على نطاق واسع وتسويقها كما لو أنها هي السلعة نفسها.

السوق هنا لا يتمرد على الأخلاق من خلال وضع يده على العلم بغرض إدماجه في دورة رأس المال، بل يتمرد على نفسه لأنه ينقل فضاء فعله من مجاله الأصلي (الطبيعة مباشرة أو المعمل) إلى مجال آخر، مجال تصميم وإنتاج السلعة بالمختبرات.

تصنيع الغذاء بالمختبرات بات إذن هو طريق السوق “الجديدة”، ليس من باب محاربة الندرة المتأتية من إيذاء الطبيعة نتيجة تلويثها واغتيال خاصية التنوع من بين ظهرانيها، بل من باب الرفع من الإنتاجية، ومن ثمة من هوامش ربح رأس المال المستثمر.

من الوارد أن تصطدم “السلع الجديدة” بأنماط الاستهلاك القائمة. ومن الوارد أيضا أن تصطدم بمنظومات ثقافية وأخلاقية قد تحول دون القبول بها، أو تقف عثرة في وجه موطنتها. لكن السوق لن يعدم الحيلة حينها لترويضها وتوجيه رغباتها، والزج بها بالتالي، في أتون استهلاك المعدل جينيا مكان وعوضا عما توفره الطبيعة أو ينتجه الإنسان.

ثمة عنصر رابع يبين بقوة أيضا، كيف يتمرد السوق على نفسه: سن ثنائية الواقعي والافتراضي. السوق والحالة هذه، لم يعد فضاء ماديا ملموسا فقط…لا…لقد فك ارتباطه في جزء كبير منه، مع الواقع المادي، ليمتطي ناصية الفضاء الافتراضي الذي لا حدود جغرافية تحصره، ولا رقابة إدارية أو سياسية تمنعه أو تردعه.

هل معنى هذا أن السوق لم يعد يكتفي بذاته، فبات يبحث عن مجالات رديفة أخرى؟ بالتأكيد…إذ انتشار مفهوم “السوق/الشبكة” مثلا، يعبر من دون شك، عن أن السوق الذي عهدناه قد انتهى…حتى وإن احتفظ بمنظومة “اليد الخفية” التي تواكبه حيثما حل وارتحل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق