المقالات

تقديم كتاب: الموحدون في الأندلس: الوجود العسكري وعلاقة السلطة بالمجتمع(إدريس مقبول)

غلاف الجزء الأول من الكتاب

تُعَد الكتابة في التاريخ العسكري والسياسي أحد أهم جوانب التاريخ إثارة للاهتمام كما يقول جبرائيل البيطار بسبب تتبع هذا الفرع من التاريخ لأشكال الصراع التي يحفل بها تاريخ البشر والحضارات والقوى المتنافسة على السلطة.. وماذا يكون التاريخ في جوهره غير تاريخ للصراع حسب جورج كاستلان في كتابه “تاريخ الجيوش”.

 لقد اختار أستاذنا المؤرخ الدكتور محمد العمراني في كتابه “الموحدون في الأندلس: الوجود العسكري وعلاقة السلطة بالمجتمع”  أن يعود لقراءة سجلات التاريخ الوسيط بمساءلتها من جديد في أفق تقديم قراءة متعددة للمتون الوسيطية، أو لنقل قراءة مغايرة للأحداث والتطورات وعمليات الإخضاع الموحدي للضفة الإيبيرية،. فجاء هذا الكتاب مرآة دقيقة جمعت في طيها التاريخ والجغرافيا والسياسة والأدب والفقه وكل ألوان الثقافة..ذلك أن التاريخ يأخذ بريقه وتألقه _كما يقول روب بريزني_ حين يصبح أداة من أدوات الثقافة تسمح لنا بفهم طموحات الإنسان وتطلعاته، نجاحاته وإخفاقاته.

في هذا الكتاب الذي يكشف لنا وجها من وجوه التقصي العلمي والتحري الدقيق في الكتابة التاريخية التي ميزت المدرسة المغربية بكافة أطيافها وخطوطها، يراهن الأستاذ العمراني على مقاربة ثلاثية الأبعاد، مقاربة عابرة للتخصصات و مشتبكة وتحتاج لخبرة عالية في تتبع خيوطها وتداخلاتها نظرا لما يعكسه واقع التَّماس بينها من تأثيرات مباشرة على طبيعة الأحداث، لقد اختار الأستاذ العمراني أن يعالج بصبر وتفان التاريخ السياسي والتاريخ العسكري والتاريخ الاجتماعي كلها مجتمعة في كتابه، متسلحا بحاسة المؤرخ النقدية وهي تفحص وتقابل وتقارن بذكاء وفطنة بين الروايات التي نقلتها كتب المصادر الوسيطية وتكشف تحيزاتها ودرجة موضوعيتها، فالروايات التاريخية كما يعرف أهل الاختصاص تتباين بحسب موقع المؤرخ من السلطة وبُعده أو قربه من الأحداث إلى جانب اعتبارات أخرى يطول التفصيل فيها.

المؤرخ محمد العمراني

تكمن أهمية الكتاب في الواقع بحكم اختياراته المنهجية السابقة في مناقشته لقضايا متعددة تنتمي لحقول معرفية متنوعة، وإماطته اللثام عن مساحة من مساحات اللقاء متعدد الأوجه المغربي الإيبيري في العهد الموحدي، هذا فضلا عن تناوله إلى جانب الموضوعات العسكرية والسياسية موضوعات أخرى تنتمي لمجال التاريخ الاقتصادي كالضرائب وقضية الملكية كما تعرض لسياسة الجهاد والاسترداد والعلاقة بالمتمردين وأنواع المعارضين، كما خاض في التاريخ الثقافي أيضا من خلال تحليل الموقف الرسمي من الفلسفة والتصوف والعلاقة بالأقليات اليهودية والمسيحية وباقي النخب الدينية والطبقات الاجتماعية من قضاة وأطباء وشعراء…

اعتنى مؤرخنا في كل الفصول التي جاءت منسقة ومتراصة في كتابه بفحص التبريرات التي تسُوقها كتب التاريخ كعناوين للسياسة الرسمية أو شعارات للثوار المعارضين، ودون أن يرتهن لأي موقف مُسبق؛ فقد حافظ المؤرخ محمد العمراني على حياديته وموضوعيته واستقلاله العلمي دون أن يكون في صف أحد إلا صفَّ الحقيقة التاريخية التي ظل وفيا لأخلاقها وضوابطها بلغة عربية جميلة تمتح من التراث رصانتها ومن الحداثة رشاقتها.

من نتائج دراسة أستاذنا المؤرخ محمد العمراني وهي متعددة وكثيرة بعدد المباحث والفصول التي بذل فيها جهدا معتبرا وواضحا، ما يتعلق بوضع النخب الفكرية والمثقفة زمن الموحدين بما يسمح لنا بفهم لما يمكن أن نسميه”المتصل التاريخي”، إذ سَنَّ الموحدون منذ زمن بعيد من أجل ترسيخ حكمهم سياسة ريعية إلى جانب سياستهم الأمنية والعسكرية، إذ أغدقوا الأموال ووزعوا الأراضي ومنحوا الإقطاعات لكافة النخب من خدام الدولة فقهاء وشعراء ووُجهاء وقواد، ولم يقصوا النخب العسكرية الأندلسية التي أدمجوها في كل الحروب والمعارك التي خاضوها بهذه المنطقة من الغرب الإسلامي.

ما يميز كتاب أستاذنا الدكتور محمد العمراني هو غنى هوامشه التي ظلت تشكل طوال مسيرة العمل كتابا موازيا لوحده بما حملته من تدقيقات وفوائد وترجيحات ومناقشات تنم عن يقظة المؤرخ وحساسيته تجاه ما يتناوله من قضايا وظواهر، فالأستاذ العمراني نموذج لعقل المؤرخ الذي لا يغفو، لا يترك جزئية مهما تناهت في الدقة والهامشية إلا ويعلق عليها ويقدم رأيه فيها بعيدا عن الأفكار الجاهزة والأحكام المرسلة التي تدفع في العادة في اتجاه تدعيم آلية التنويم المغناطيسي التي يمارسها السرد التاريخي غير المراقَب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق