المقالات

تقديم كتاب:دراسات غزالية(إدريس مقبول)

الاشتغال على فكر وتجربة أبي حامد الغزالي هو اشتغال له جاذبيته حين يتعلق الأمر برجل عُدَّ من أذكياء العالم في كل ما كتب كما شهد له الحافظ ابن كثير، رجل بصم تاريخ المعرفة الدينية والفلسفة الإسلامية ببصمات واضحة، رجل ملأ الدنيا وشغل الناس، أو كما وصفه ابن السبكي”جامع أشتات العلوم،والمبرز في المنقول منها والمفهوم”. فالغزالي لم يكن واحدا، بل اجتمع فيه كثيرون، وهذا سر تفرده.

لقد اختار الأستاذ محمد لشقر منذ زمن ليس باليسير أن يخوض غمار البحث في تراث الغزالي، وظل وفيا لنصوصه مداوما على قراءتها وإعادة قراءتها في أفق اجتراح مسارات جديدة لفهمه ورسم خرائطه المعرفية على ضوء ما تتيحه القراءة المقارنة بينه وبين كثيرين منهم أفلاطون والفارابي والباجي وابن العربي ويحيى بن بقودا وابن رشد وغيرهم، فجاءت نصوص الأستاذ لشقر الشغوف بالفلسفة وبالسفر في تخومها مشتعلة بالأسئلة باحثة عن الأصداف التي ظلت بعيدة عن أنظار الغواصين في الفلسفة الإسلامية.

كتاب “دراسات غزالية” جاء تأليفا بديعا من أحد عشر فصلا كأنها فصوص متصلة، كتبت فقراته بلغة بيانية رائقة تجمع بين قوة التعبير الفلسفي والانسيابية البيانية التي تهيأت له بفضل دربته وتمرسه على عيون النصوص التراثية وعلى رأسها نصوص الغزالي المميزة في سائر ما كتب فيه من منطق وأصول وكلام وفلسفة..وقد جاءت الموضوعات في هذا الكتاب على ما فيها من تنوع لا يفصلها عن بعضها البعض إلا مثل ما يفصل الأشجار المثمرة المتنوعة في البستان الواحد، “تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل”، نصوص متلاحقة يجمعها الوفاء للغزالي، والناس يستحسنون الوفاء، كما يقول ابن مسكويه، لحُسنه في العقل.

جاءت الفصول التي كُتبت على سنوات من الاشتغال متنوعة كما ذكرنا، تترجم سعة العوالم التي ساح فيها حجة الإسلام مؤثرا ومتأثرا، عارضا ومعارضا. فنجح الأستاذ محمد لشقر في أن يدافع، من خلال مقاربته الكرونولوجية والفيلولوجية في نفس الآن، بحِرَفِيّة ومهارة واضحة عن أصالة الغزالي في تصوفه كما في تفلسفه..وغني عن البيان أن هذا الاختيار سبق إليه ماسينيون ومونتجمري وموريس بويج وعبد الرحمن بدوي وغيرهم ممن استشكلوا قضية تطور فكر الغزالي والحاجة لتمييز نصوصه المنسوبة إليه من المنحولة وكذا معرفة تواريخ تأليفها ليسلم الحكم على الثابت والمتحول فيها..

هذا الكتاب في وجه من وجوههه انتصار للغزالية بمعناها الموسع، فقد اهتم الأستاذ لشقر بنحت طريقته الخاصة في تناول الموضوع كما الموقف كما المنهج عند الغزالي، ولهذا لم يساير الكثير من الأقوال فيما يتعلق بمنزلة الغزالي وانتمائه للأشاعرة، بل كشف عن معالم لحظتين أساسيتين تشكلان موقف حجة الإسلام من الرصيد الكلامي، فميز بين لحظة الانتصار لعلم الكلام باعتباره حارسا لعقائد الجمهور، واللحظة الثانية التي راجع فيها موقفه بمزيد من التنسيب في سعيه وبحثه عن اليقين الذي جعله يتنقل من فقيه إلى أصولي إلى متكلم إلى فيلسوف وختاما إلى صوفي، لقد كان الغزالي دائم البحث عن الحقيقة، لكنها الحقيقة التي تلونت في كل طور بلون مختلف جعلته متقلبا يطاردها بين أكثر من مذهب وفي أكثر من طريق، عدم الاستقرار الذي رأى فيه صاحب الكتاب مظهرا من مظاهر عبقريته وعظمة فكره، وهو الموقف الذي يلتقي فيه الاستاذ لشقر مع ريتشراد فرانك الذي اشتغل كثيرا على مراجعة سؤال أشعرية الغزالي، وحكم بما سماه الاغتراب المتدرج عن الأشعرية عند الغزالي.

المؤلف: محمد لشقر

في هذا الكتاب يعود الأستاذ لشقر ليخوض نقاشات كثيرة حملت معها أقوالا وخلاصات تحولت مع الزمن بسبب الطابع الفلسفي المدرسي إلى ما يشبه الحقائق والمقررات، من ذلك قضية الغزالي والأفلاطونية المحدثة، لكنه يصر أن يسائلها ويشاكس عليها بأسئلة الناقد كي يعيد ترتيبها والتهييء لتركيبها من جديد في نسق تفسيري مغاير يتأسس على ثنائيات: الظاهر والباطن، وعالم الملك وعالم الملكوت، ثم طور العقل وطور ما وراء العقل. ومن زاوية أخرى اعتنى الاستاذ لشقر بعقد مقارنات بين الغزالي والفارابي من جهة وبينه وبين ابن العربي من جهة ثانية سعى من خلالها لرسم خطوط التماس التأويلي في الممارسات الفلسفية النقدية على وجه التحديد، منتصرا للغزالي في كل ذلك ولأصالته جوابا عن بعض الدعاوى الاستشراقية(دعاوى ميغيل بلاسيوس على وجه التحديد) التي ظلت تصر على إلحاقه بالمدارس المسيحية واللاتينية القديمة.

يحرص الكاتب قبل إنهائه لبحثه أن يسجل اشتباكا معرفيا آخر مع بعض رواد البحث في الفلسفة الإسلامية في المشرق والمغرب منهم جمال الدين العلوي ومحمد مساعد ومحمد عابد الجابري ورفيق العجم وعبد الرحمن بدوي وغيرهم، هذه المرة ليعطي الكلمة لما تسعف به الكرونولوجيا التي ترفض التعاطي الاعتباطي أو “الحر” مع المواقف في تغافل عن تاريخ الأفكار الخاصة، ما يجعل الصورة غير مستوية، بل ومشوهة أحيانا كما يشير الكاتب، خاصة أن الغزالي يشهد بذلك على نفسه في المنقذ من الضلال، فقد مر بتقلبات وتجارب أخصبت فكره وغيرت اتجاه بوصلته في كثير من المسائل والقضايا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق