المقالات

بين المهنية العالية و الإحساس بالصدمة في التعامل مع الكوارث(عز العرب لحكيم بناني)

أحسَّ المغاربة بهول الزّلزال إلى حدّ الشعور بصدمة نفسيّة كبيرة، سواء في عين المكان أو في أماكن بعيدة عنها. ونفترض في مقابل ذلك أنَ فئةً من النّاس لا ينبغي لها أن تحسَّ بتلك الصّدمة، وأعني بها فئة المهنيّين، وهي فرق الإغاثة والإنقاذ. إذا ما شعر جميع الناس بالصّدمة، يقتضي الحسُّ المهني ألا يشعر بها المتدخلون المباشرون وألا تحس فرق الإنقاذ بنفس الشُّعور، وإلا غابت الاحترافيّة عن عملهم.
ما هو السّبب في ذلك؟
على خلاف المواطن البسيط، تعلم المحترف كيف يتدخل، وكيف يحافظ على برودة أعصابه وكيف يصل إلى نجاعة أكبر في تحقيق الأهداف. وكذلك هناك سبب هامٌّ جدًّا وهو أنّه تعوَّد على رؤية الدّم والموتى والجراح، إلى درجة أنّنا نقول أحيانا أنَّ الطبيب أصبح بدون قلب، من كثرة تعوُّده على معالجة الحالات الخطيرة، ومن قدرته على النظر بتجرُّدٍ وموضوعيّةٍ إلى المآسي.
والنتيجة هي أنَّ المهنيَّ يتدخَّل بعقلانيّة ووفق بروتوكول معروف في توزيع الأدوار وضبط مراحل التدخل والأهداف المطلوبة في كل مرحلة. ولولا أنّه قد تعوَّد على رؤية الشرّ، لما استطاع القيام بعمله بعقلانيّةٍ وتجرُّدٍ. على خلاف موقف الاختصاصي في الإنقاذ، نجد موقف الإنسان المصدوم الذي لم يسبق له الإحساس بزلزال ولا برؤية الجرحى ولا الموتى تحت الأنقاض. لا يستطيع المصدوم أن يتصرف بعقلانية في تلك اللحظات. أعني بالعقلانية إيجاد الوسيلة المناسبة لتحقيق الغاية وأعني بها حساب الربح والحسارة، كما يرى النفعيون ذلك ولا أعني بها العقلية الخرافية و غياب العقل أبدا.
مثل كل المغاربة، أحسست أنا أيضا ولو بصورة نسبيّة بهول الفاجعة، في بيتي على بعد مئات الأميال من مركز الزلزال، شعرت بلهفة كبيرة لمعرفة هل وصل الإسعاف في الوقت المناسب إلى الأماكن المنكوبة. وبقدر ما تزايد الشعور لحظة بعد لحظة بمدى سرعة الدمار واختفاء البشر تحت الأنقاض، تزايد الشعور بتباطؤ عجلة الزمن؛ وأصبحت الدقيقة الواحدة تساوي ساعة وأصبحت الساعات الموالية للزلزال تساوي دهرا. هذا هو شعورنا الإنساني في اللحظات المأساوية: كلما ازداد الإحساس بتضاعف عدد الضحايا مع توالي اللحظات، كلما شعرنا بأن الزمان قد تباطأ وبأن الإسعاف لم يصل في تلك اللحظات الموالية العصيبة إلى الضحايا.
هذه هي المفارقة الأنطولوجية: كلما ازداد حرصي على الوصول إلى قاعة العمليات في أقرب وقت بعد حادثة سير، كلما استعجلت الأطباء، وكأنَّ أية لحظة انتظار تتحول إلى دهر.
يقول المناطقة الأرسطيون: توجد علاقة عكسية بين المفهوم والماصدق. على هذا النحو: توجد علاقة عكسية بين الرغبة في الإنقاذ والإحساس ببطء التدخل. كلما تضاعفت صفات المفهوم، تناقصت أعداد الماصدق، والعكس بالعس. كذلك كلما ازدادت الرغبة في سرعة الإنقاذ العاجل تزايد الشعور بالبطء في التدخل.
بقدر ما تزداد الرغبة في العلاج أو الأمل في الإنقاذ، بقدر يزداد الشعور بالإحباط، وبتثاقل عجلة الزمن. تتسارع نبضات قلوبنا نتيجة تضاعف حجم الأهوال من جهة أولى، وتجمد الدماء في العروق نتيجة الانتظار من جهة ثانية.
هذه هي المفارقة بين تسارع الآمال وتباطؤ تحقق الانتظار. ونحن أوَّل ضحايا هذه المفارقة حينما نتعرض للصدمات دون سابق إنذار.
وهذا هو الفرق بين المواطن العادي، مثلي ومثلك، وبين فرق الإغاثة والإنقاذ والوقاية المدنيّة. لا يوجد فرق في المشاعر نفسها، بل في طريقة التعامل مع الأهوال. الفرق الأساسي هو أن هذه الفرق متدربة على التدخل عند حصول الكوارث الطبيعية وفي بؤر النزاعات المسلحة واكتسبت خبرة في التعامل مع الأهوال الطبيعية. يختلف التعامل المهني عن الاندفاع الوجداني بين العجلة والاستعجال وبين الآمال والإحباط. يتعجب المسؤولون كيف يدعو الإحساس المرهف لدى المواطن بالاستعجال ويشكو من التدخل، بينما تستدعي المهنيّة تأمين المناطق الخطيرة وحماية طواقم الإنقاذ والضحايا من أيّ تدخُّل غير محسوب العواقب.
غير أنّه من الواجب من زاوية فلسفيّة أن نأخذ الموضوع في شموليّته. رأينا بصورة ملموسة كيف أنَّ الإحساس بالعلاقة العكسية بين الرغبة في الإنقاذ والبطء في التدخل قد دفع الشباب وأبناء البلدة والقرية إلى التدخل بشكل تلقائي في المناطق الوعرة لإنقاذ الضحايا، دون أن ينتظروا وصول الفرق المتخصصة، وقوى الجيش والأطباء وغيرهم ، بحكم انقطاع الطرق وصعوبة الولوج إليها؛ لكن المؤكد هو أنه لولا هذا الاندفاع الوجداني إلى التدخل في أسرع وقت، بدعم حاسم من جمعيات المجتمع المدني، وبكلّ الطرق الممكنة، لما ظهرت موجة التضامن العارمة مع الضحايا في وقت قياسي.
يوجد تكامل كبير بين تدخل المواطنين في موجة التضامن وتدخل الفرق المتخصصة في الإنقاذ والوقاية.
يؤدي الإحساس بالمفارقة بعد الكوارث وفي حياتنا اليوميّة إلى الإحساس بأنَّ النتيجة لم تكن أبدا في مستوى التوقعات؛ ونحن نلوم أنفسنا بقدر ما نلوم غيرنا على تباطؤ النتائج في مقابل كثرة التوقعات. يظلُّ شعور خفيٌّ بعدم كفاية كلِّ وسائل التدخل، دون سقف التوقعات قائمًا على الدَّوام. في المقابل، يعتبر هذا الشعورُ عاطفيًّا ووجدانيًّا وليس له منطق مبنيٌّ على وقائع في نظر قوى الإسعاف.
أعتقد أنه يجب تفهم الموقف النقدي الذي يبديه المصدوم، لإنه ينبعث من الحس الإنساني، وينبغي تفهم الموقف المهني الذي يعبّر عنه المهني بحُكم تعوُّده على رؤية الكوارث. لكن في ذات الوقت يجب التخوف الشديد من التعود، لأنَّ التعود على رؤية الموتى تؤدّي إلى عدم رؤية الموتى، والتعود على سماع البكاء يؤدّي إلى الصمم. وقد كانت حنّة أرنت قد أبدعت مفهوم ، وbanalité du mal وهي لا تعني به تفاهة الشر، ولا تعني أن مرتكب الشر إنسان عادي، بل تعني أنَّ الإنسان قد تعوّد على رؤية الشر، فأصبحت الكوارث منظرًا طبيعيًّا وعاديًا، وأصبحت مناظر حوادث السير منظرا عاديًا مألوفًا لرجال الإسعاف. ولذلك فإنَّ الإحساس بالصدمة يساهم في رؤية الكوارث بروح نقدية وبطريقة جديدة، ولو اعتقد البعض انها غير عقلانية بالمعنى المقصود .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق