المقصيون في مواجهة الليبرالية المتوحشة(عبد السلام ديرار)
حركة “احتلوا وول ستريت”(Occupy Wall street) ، التي انطلقت مع بداية العقد الحالي (17 شتنبر 2011)، و التي يشير كثير من الباحثين إلى استلهامها روح ثورات المضطهدين في دنيا ما قبل الليبرالية و ما قبل البورجوازية و ما قبل الدولة، و ما قبل… خصوصا المصرية و التونسية (و التي تكالبت قوى للشر محلية و إقليمية و دولية (وهذه الأخيرة تنم هي الأخرى عن عودة القديم…) لإجهاضها و تحويل أحلامها إلى كوابيس)، حركة “احتلوا وول ستريت” هذه، و رغم طابعها السلمي، فإن اختيارها لفضاء انطلاق حركتها (قرب وول ستريت، مقر النبلاء القدماء/ الجدد) و “احتلالها” للمكان في شكل “إقامة”، لأسابيع، و إصرار مئات المحتجين على العيش و النوم بمنتزه Zuccoti، و امتداد الحركة إلى كل الولايات المتحدة الأمريكية، بتنظيم احتجاجات مماثلة في 70 ميتروبول كبير مع حضور 600 جماعة. ثم امتدادها يوم 15 أكتوبر 2011 أي بعد حوالي شهر من انطلاقها (17 شتنبر 2011) إلى حوالي 1500 مدينة من 82 بلدا عبر العالم، كل هذا ليس من آليات “التواصل” و “الحوار” و “الوساطة” التقليدية ضمن النموذج الاجتماعي البورجوازي، في شيء، بل ينم – بشكل واضح- عن كون هؤلاء المحتجين، واضح لهم تماما، كونهم لا يخاطبون بورجوازية “تسمع” و”ترى”، قد تفيد معها تظاهرات فاتح ماي “الاحتفالية”، و بعض الاحتجاجات الخفيفة، لأن نقابات تشتغل إلى جانبها!، بل كائنات ميليارديرية جشعة و بشعة، لا ترى غير طريق مضاعفة ملياراتها و توسيع “ضيعاتها” (“الضيعات” بأمريكا مرادف للإقطاعيات القروسطية)، و عدم الكف عن إضافة علامات البذخ و الاستهلاك السفيه (القديمين) إلى قصورها، و لو بلغ عدد الأمريكيين الذين يحيون في “قرى التائهين” و أنفاق القطارات الخمسين مليونا! و باتت مدن السود و الملونين أوكارا فسيحة للمخدرات و بيع الأجساد بالتقسيط و الجريمة .
و لعل أبرز ردود فعل المقهورين بالغرب تجاه النكوص الاجتماعي الجاري حولهم، و الذي يطحنهم بالسرعة القصوى (اليوم)، تلك الحركة التي ظهرت أول مرة في الثمانينات من القرن الماضي بألمانيا، و المسماة ب”الكتل السوداء” (Black blocs) (Schwarze block بالألمانية)، بالأوساط المستقلّة، بهدف الدفاع عن المتشرّدين الذين يحتلون بيوتا غير مأهولة (les squarts) و حمايتهم من طرد البوليس لهم. ثم تحولت إلى النضال في مجموعات صغيرة ترتدي السواد و تخفي وجوهها لكي لا تعرف، هي إطار للفعل الجماعي ضد ما تراه “العولمة الرأسمالية المتوحشة”، أو ممارسة جديدة “معادية للرأسمالية”، و كردّ على الوسائل الجديدة للمراقبة و الضبط و تحولات الاقتصاد العالمي. و هي تستعمل تكتيكات تظاهر أو بشكل لا شكلي/ لا نظامي ([1])، و هي إشارة واضحة إلى انفضاح كون آليات النموذج الاجتماعي (النظامية) المعلنة لم تعد تشتغل أو أن “اختلالا” مسّ أحد عناصرها، و الذي ليس هنا، غير إخلال الطرف الآخر (محتكرو الموارد و السلطة) بمقتضيات ذلك النموذج. و من الصعب تحديد الفاعلين في هذه الحركة، سواء سياسيا أو اجتماعيا (هو التوغّل بعيدا عن النظامي يتفاقم!). و في ممارستهم ل”العنف” ضد ما يرونه توحّشا، و إمعانا في إرباك المعنيين بفعلهم، يختارون بعناية سياقاته، والتي تكون في الغالب مواقع حضرية حيوية، أو حيث التظاهرات العادية، حيث يمكن جرّ الكثيرين إلى فعلهم ([2]). ثم إن هذه الحركة مختلطة بشكل مثير، و حضور النساء فيها في تزايد لافت (هن اللائي نجح محتكرو الخيرات بالغرب في العقود الأخيرة، في تحييدهن بدرجة كبيرة، عبر الآلة الرهيبة للإعلام بالخصوص، و التي نجحت في “إغراقهن”في أجسادهن، بعدما كنّ حققن إنجازات كبرى بأثمنة باهظة على امتداد قرنين على الأقل، إذ حتى 1793، تم إعدام Olympe de Gouge، إثر اختيار “رجال” الثورة الفرنسية لدستور يحتكر فيه الرجال الحق في الاقتراع و تجرّؤ De Gouge على كتابة إعلانها الشهير عن “حقوق المرأة المواطنة”([3]).
حركة ثورية تعتمد “العنف”، و تشهد إقبالا واسعا للنساء في صفوفها، مستعدات للمواجهة “القصوى” (لا للتظاهر الاحتفالي)، فهي علامات شعور عميق بأنها ليست في مواجهة ذلك الطرف الآخر (العقلاني و الديمقراطي و المنفتح)! الذي يقبل بالحوار (المتحضّر)، و بالتنظيمات النقابية وسيطا و بالعيش المشترك، بل أمام القديم الغاشم المتوحش و قد عاد بكل لا إنسانيته، و أن “العنف هو الوسيلة الوحيدة لإعادة صياغة التاريخ، أو إعادة توجيه مساره أمام طغيانه، كما أن معايير تجنيد هذه الحركة للفاعلين فيها ينمّ عن شعور فادح بالقهر و مراهنة على قلب الوضع الذي لم يعد يحتمل، لأنه لم يعد هو نفسه، في أبسط تمظهرات وعوده، فهو (التجنيد) يتم على أسس صارمة للتقارب الإيديولوجي ([1]). و الايديولوجيا هنا واضحة و معلنة: مواجهة رموز الرأسمالية و الدولة، مواجهة الديمقراطية الليبرالية التي اتخذت شكل (S’est métamorphosé) أوتوقراطية لللامساواة ([2])، و الدولة التي تخلت عن كل شعاراتها باعتبارها “دولة الحق” و “دولة القانون” بل و “دولة الرعاية”!!، و هي مُركّبات (اقتصادية و سياسية) لاجتماعي أعمق هو “عودة نبلاء جدد”.
ولا تُفَوّت حركة “الكتل السوداء” أي حدث يرمز للجشع (القديم) و العدوان (القديم) و لقاءات رموز عودة القديم، و الاحتجاجات ضد النكوص باتجاه القديم إلا و تكون لها كلمتها فيها، فقد عرفت إعلاميا عام 1991، ضد حرب الخليج الأولى ضد العراق، ثم ب سياتل ضد قمة منظمة التجارة العالمية (OMG)، ثم ضد الثمانية الكبار (G8) بGênes في يوليوز 2001، و بEvian عام 2003، ثم ب Helligendam عام 2007، و بستراسبورغ خلال قمة الحلف الأطلسي، و بهامبورغ ضد مجموعة العشرين (G20) عام 2017، و فاتح ماي 2018، ثم خلال أزمة السترات الصفراء بباريس ([3]).
و أما بفرنسا، و بالرغم من صعوبة الإحاطة بكل أشكال ردود الفعل تجاه الوقائع
و الأحداث الراهنة التي تشير إلى تردّي أحوال النموذج الاجتماعي المعلن غداة الثورة الفرنسية، في واحدة من أسوأ محطات النكوص (فهي متعددة كما فصلنا ذلك سابقا)، يلتقي كثير من الباحثين على كون حركة السترات الصفراء (Les Gilets Jaunes) التي انفجرت منذ مدة طويلة (17 نونبر 2018)، واحدة من أشرس الحركات الاحتجاجية التي يشهدها الغرب ضد الوضع الراهن، و أن دوافعها أكبر بكثير من رفع ثمن المحروقات كما يراد اختزالها (و احتواؤها) فيه. هذه الحركة التي ترعب الحكومة الفرنسية (و معها مُحتكرو الموارد)، و انتقل صدى غليانها و راديكاليتها إلى كل عواصم الغرب (و طبعا إلى بقية عواصم المضطهدين الأزليين ب”رنّات” مختلفة)، يضاعف الرعب الذي تحدثه، المدة الزمنية الطويلة التي صمدتها، و يعطيها طابعا تاريخيا، خصوصا و أنها جاءت غداة عامين حاميين بفرنسا، من الحركات العمالية و الطلابية ضد قانون الشغل المريب و نظام السكك الحديدية الجديد الذي يجهز على كل مكتسبات السككيين، و التي (تلك الحركات) انتهت دون سماع صوتها، و توهّم الكثيرون أن “الحرب” انتهت!، فانفجرت حركة “السترات الصفراء” بتصميم متفرّد و أشكال مواجهة مبتكرة (لا تمت بصلة للآليات التقليدية للنموذج الاجتماعي القائم/ الذي يتهاوى، وهو ما يهمّنا بدرجة أولى ضمن هذا العمل)، و بغضب يشارف السّعر، لإعادة بث الأمل و التصميم في غضب الغالبية الساحقة من الفرنسيين في مواجهة عدم الاستقرار المتفاقم في شروط حياة العمال و الشباب و العاطلين و المتقاعدين… و التحاق شرائح أخرى بوثيرة متسارعة بهؤلاء… و التضاعف المتزايد للمقصين تماما (Les SDF) بكل شوارع المدن الفرنسية.