الدين في أدبيات علم الاجتماع الديني(عبد الرحمن منظور الشعيري)

• يعد مفهوم الدين من المصطلحات الملتبسة علميا داخل حقل العلوم الاجتماعية بصفة عامة، وبالأخص في أدبيات علم الاجتماع الديني، نظرا لتعدد الأديان موضوع التعريف والدراسة وللمظاهر التعبدية والسلوكية والقانونية المرتبطة بها، مما يحتم علينا بالضرورة الأكاديمية التوسل بمبدأ النسبية في التعريف، والأخذ بعين الاعتبار تعدد الظاهرة الدينية عند التحليل والتفسير العلمي دونما الاقتصار على نموذج واحد من الديانات[1].

وبناء على هذه الملاحظة المنهجية نخلص إلى ضرورة التمييز بين مفهوم الدين (Din) في الحقل الدلالي المرتبط بالإسلام وبين “دين” كترجمة للفظ ((Religion) في الفكر الاجتماعي والديني الغربي.

تفيد كلمة الدين في اللغة العربية معاني الطاعة والحساب والعادة، وقد أوضح اللغوي العربي ابن منظور ذلك في موسوعة لسان العرب فكتب: “يقال دان بكذا ديانة. وتدين به فهو دين ومتدين (…) والدين العادة والشأن، والدين لله من هذا إنما هو طاعته والتعبد له، والدين ما يتدين به الرجل.[2] ولحمولتها العقدية والتشريعية المرتبطة بالإسلام وردت مفردة الدين ومشتقاتها مرات كثيرة ومتعددة في القرآن الكريم والسنة النبوية[3].

فالدين في السياق الحضاري العربي والإسلامي المشكل للخلفية المعرفية لهذه الدراسة مرادف للإسلام، ويتمايز عن مفهوم “Religion” كما برز في أعمال السوسيولوجية الدينية في البيئة المسيحية، التي استحدث فيها مفهوم دين، أي”Religion” لغاية وظيفية غايتها التمييز بين مجاله الخاص المتعلق بالعقيدة المسيحية والكنيسة أي “المقدس” وبين المجال “المدنس” المرتبط بالدولة والسلطة السياسية الزمنية. وهو الأمر الذي أفرز تناقضات معرفية وسياسية شكلت معايير مازالت ممتدة زمنيا في مجمل الفكر الديني والسياسي الغربي، مثل الحديث عن سلطة زمنية مقابل سلطة دينية، قانون ديني مقابل قانون مدني، وأعياد دينية مقابل أعياد مدنية[4].

يتميز مفهوم الدين في الثقافة العربية والإسلامية بتعدد مظاهره وأبعاده لارتباطه العضوي بالإسلام، مما حدا بالعالم الديني التونسي محمد الطاهر بن عاشور (1926 -1972) إلى تحديد تسع مظاهر للإسلام كدين في معرض تفسيره للآية القرآنية {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام}[5] من أبرزها: المظهر العقدي (التوحيد) والتعبدي (العبادات) والتشريعي (القوانين)، والأخلاقي ثم المظهر المعرفي والفكري ثم المعاملاتي[6].

وفي نفس التوجه النظري التفسيري للدين في سياقه الحضاري المرتبط بالإسلام والذي بمقتضاه لا يمكن حصره في العلاقة الروحية فقط بين الإنسان والله تعالى، بل يُستحضر كمفهوم له أبعادا متعددة، وتشمل تعاليمه جميع العلاقات البشرية، سواء منها في مجال العبادات أو المعاملات سواء في السياسة والاقتصاد…إلخ، يطرح المفكر الجزائري المختص في الإسلاميات محمد أركون تعبيرات متعددة للدين الإسلامي. حدددها فيما يلي:

• التعبيرات الرسمية: والتي تتجلى في النصوص الدستورية، مواثيق وطنية وخطب النخب الحاكمة، أدبيات المؤتمرات الإسلامية.
• التعبيرات التربوية: التعليم الديني أو الأصيل، لغات ومناهج تربوية، تنشئة الأطفال… إلخ.
• التعبيرات القانونية: في مدونات الأحوال الشخصية والمدونات الجنائية …
• التعبيرات الثقافية: كالأعمال الجامعية، التعليم العالي…إلخ.
• التعبيرات الأدبية: في الروايات، المسرح، السينما، الشعر… إلخ.
• التعبيرات الفنية: البارزة في الموسيقى الروحية، المعمار الديني والنقوش الممجدة للإسلام ورموزه.
• التعبيرات الإيكولوجية: المرتبطة بقيم الإسلام في التعامل مع الأرض وطرق استثمار الموارد الطبيعية… إلخ.
• التعبيرات السميولوجية: العادات والتقاليد… إلخ.
• التعبيرات الطقوسية: الصلاة، الحج، الأعياد الدينية… إلخ[7].

وبالنسبة لعلم الاجتماع الديني فمفهوم “الدين” يحضر كظاهرة ذات أبعاد وظيفية ومادية في المجتمعات، وبناءا على هذا التأسيس المنهجي يتم تحديد تعريفات متعددة للدين بحسب التوجهات النظرية والإيديولوجية لواضعيها[8] وبتعدد الأديان موضوع التعريف والدراسة، إذ من المعلوم أن خريطة الأديان في العالم ماضيا وحاضرا متعددة، فمنها السماوية المعروفة: الإسلام، المسيحية واليهودية، ومنها الوضعية كالكونفوشوسية والهندوسية والبوذية…

فمن مقاربة أنثربولوجية محضة يعرف “كليفورد جيرتز” الدين بـأنه “نسق من الرموز يثير لدى الناس حوافز قوية وعميقة ومستمرة من خلال صوغ مفاهيم حول الوجود وإعطائها مظهرا واقعيا، لتبرز هذه الحوافز وكأنها حقيقية”[9].

ومن نفس المنطلقات العقلانية والفلسفية الوضعية يعرف عالم الاجتماع الديني الأمريكي” جون مليتون ينجر”، الدين “كنسق من المعتقدات والممارسات يخول بواسطتها لمجموعة من الناس مواجهة المشاكل الأساسية للحياة الإنسانية”[10]. بينما وضع كل من “كلود بوفاي” و”رولان ج. كاميتش” تعريفا للدين يجمع بين عنصري الماهية والوظيفة، فالدين بحسبهما هو “مجموعة من المعتقدات والممارسات المنظمة إلى حد ما، ترتبط بحقيقة ارتقائية تفوق التجربة، تمارس في مجتمع معين وظيفة أو أكثر مثل: الدمج، التعرف، تفسير التجربة الجماعية، الإجابة على الطابع غير الواثق بنيويا في الحياة الفردية والاجتماعية”[11].

وبناء على هاته التعريفات المؤسسة إيديولوجيا على تراكمات السوسيولوجية الدينية كما برزت في أعمال “إميل دور كهايم”[12] و”ماكس فيبر”[13] و”أليكس دي توكفيل”[14] و”روجيه باستيد” وآخرين، فإننا نلحظ أن الدين يحضر في تصوراتهم وفق رؤية فلسفية مشتركة تعتبره فعلا مجتمعيا ذا أبعاد رمزية وتطمينية للمؤمنين. وهي خلاصة تمتح معرفيا من رؤية “ماكس فيبر” للدين باعتباره ” طريقة سلوك في المجتمع لتحقيق السعادة”[15] وهو الطرح الذي أكده “جون بول ويليم” بتبنيه تعريفا للدين “كنشاط اجتماعي منتظم يتضمن علاقة مع سلطة ذات عمق وتأثير شعبي[16]. إذ يعتقد هذا الباحث أن النشاط الاجتماعي للدين يرتبط بالتواصل الرمزي المنتظم عبر الشعائر والمعتقدات، وهو من صميم بنية أي ديانة، فالدين وفق هذا المنظور يبرز من خلال جهاز طقسي رمزي بلغة السوسيولوجية الدينية، يجمع بشكل منظم فاعلين يرتبطون بعلاقات متعددة، بينما تتأسس سلطته الجاذبة مجتمعيا على طابعه المؤسساتي والزعامة الروحية القائدة له، وعلى الامتدادات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتفرعة عنه[17].

[1]–  J. Paul. William, sociologie de religion. PUF.Paris.1995.p :114.

[2] – أبو الفضل جمال الدين محمد ابن منظور، لسان العرب، المجلد 13. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت 1990 ص ص  169 – 170.

[3] – بحسب البرنامج المعلوماتي أرقام وإحصاءات قرآنية، وردت كلمة دين ومشتقاتها اثني وتسعون مرة (92) في القرآن الكريم انظر: www.e-quran.com

[4] –  Encyclopédie Universalis,T19. Article “religion”.France s.a 1996 .p : 755 

[5] – سورة آل عمران الآية: 19.

[6] – محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير. ج 3. دار سحنون للنشر والتوزيع تونس، 1997 ص ص  188- 196.

[7] –  Encyclopédie universalis.T12, les expression de l’islam op .cit .p : 677.

[8] – وصف إ. لامبيت تعدد تعريفات الدين ببرج بابل لكثرتها وتنوعها، انظر،

Lambet (y).la «  Tour du Babel » des définitions de la religion .revue social compass. n :38 (1).1991 p p : 73-85

[9] – Geertz Clifford, Religion as cultural système . in the interpretation of cultures.selected Essays.Fontana press London 1993.p :90

[10] – Yinger. J .Milton. The scientific study of religion.New york. Mac millan, 1970 p :7

[11] –  J.Paul.William, sociologie de la religion, op.cit p: 181

[12]–  Emile Durkheim[1889], les forces élèmentaires de la vie religieuse .PUF.Paris.1968

[13] في مؤلفه الشهير، الأخلاق البروتستانية وروح الرأسمالية. رفض ماكس فيبر تصنيف الدين في دائرة اللامعقول، وتعامل معه بالنسبية العلمية المطلوبة في تحليله كظاهرة قيد الدراسة. وللمزيد من التعمق في الفكر السوسيولوجي لماكس فيبر حول الدين، انظر إكرام مسيرة مدني، سوسيولوجيا ماكس فيبر، المنهجية ،السياسة و الدين. أطروحة دكتوراه في القانون العام، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية. مراكش. السنة الجامعية 2008 – 2009.

[14] – رغم أن دي توكفيل لم ينتج عملا محددا حول الدين، فإنه يعد من رواد علم الاجتماع الديني. ففي كتابه الشهير (المنشور في جزئين سنة1804) حول الديمقراطية في أمريكا، عمل على التقعيد النظري لعلاقة الدين بالديمقراطية وعن دور الدين الحيوي في استمرار المؤسسات الاجتماعية والسياسية انظر:

Alex de tocquerille.de la démocratie en Amérique. Ed. Flammarion Paris.1981

[15] –  Max weber, économie et société, Ed.Plon.Paris.1971.p :429

[16] – J. Paul.William, sociologie de la religion, op.cit.p :185

[17]  – Ibid ,pp :186-189

وللمزيد من التعمق والدراسة حول مفهوم الدين والنظريات المرتبطة به في علم الاجتماع الديني والأنثربولوجيا. راجع كذلك: عبد الباقي الهرماسي وآخرون، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية بتعاون مع الجمعية العربية لعلم الاجتماع، الطبعة الثانية، بيروت 2000.