المقالات

الحوار الحضاري والعيش المشترك(أحمد الفراك) ج5

الغيرية الحضارية والأخوة الإنسانية المشتركة

  الناس إخوانك في الآدمية والأرض والرسالة؛ في الدم والوطن والمصير، اعوجت مشاعرهم بآلام التاريخ، وتلاعبت بعقولهم مصالح الكبراء، وتكركسوا من سماء الحب إلى صحراء الحرب، فتحولوا من إخوة إلى أعداء. أما اليوم فتحيا الإنسانية يقظة جماعية للتخلص من مآسي الماضي والانتقال إلى الحياة المشتركة على وطن مشترك في هوية “أوطانية” مشتركة، لا تنمحي فيها الخصوصيات ولا تذوب فيها الاختلافات، وإنما تنتظم في عقد ميثاقي تراحمي وتعاوني وتكاملي.

الغير هو الذات الأخرى، هو الإنسان نفسه، هو الإنسانية التي يشترك أفرادها في الخلق والأرض والمصلحة والمصير، لا وجود لي من غير وجوده، إنني لا أوجد إلا بمعيته[1]، أنا عاجز عن كفايتي الذاتية، أي غير قادر على تلبية حاجاتي النفسية والاجتماعية، أي مجموع الحاجات كما رتبها عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو Abraham Maslow (1908-1970) من خلال ما يسمى بـ”هرم ماسلو” للاحتياجات الإنسانية، فالناس في هذه النظرية شركاء ترتيب حاجاتهم في الحياة، ففي المرتبة الأولى تجد الحاجات الفيزيولوجية الأساسية، تليها حاجات الأمان، وبعدها الحاجات الاجتماعية، ثم الحاجة إلى التقدير والمكانة، وأخيرا الحاجة إلى تحقيق الذات[2].

وبناء عليه فإن العلاقة مع الغير حقا هي أيضا علاقة اشتراك في حاجات تؤسس لتعارف نفسي وحنين وجودي واجتماعي وعمراني لا محيد عنه، إلا من جهة الغفلة عن حقيقة الاجتماع البشري أو عن السنن الكونية التي تنتظم الوجود العمراني عموما. ولعل هذا ما يؤكده ابن خلدون بقوله: “الاجتماع ضروري للنوع الإنساني. وإلا لم يكمل وجودهم وما أراد الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم. وهذا هو معنى العمران.”[3]

وتعارف المسلمين مع غيرهم لا يستدعي بالضرورة إدخال هذا الغير إلى الإسلام كرها أو انسلاخ المسلمين من دينهم، إذ إن تعدد الملل والنحل حتمية سُننية لا تتوقف، ولا يمكن طمسها أو تغييبها، ولا أحد باستطاعته ولا يُطلب منه أو يُسمح له بأن يكون قاضيا بسلطته وتشريعاته في أن يقطع اختلاف عقائد الناس ومذاهبهم. الله وحده سيفصل بين عباده،ويوم القيامة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ والنصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(الحج:17).

ولا يتصور إمكان القضاء على الاختلاف واختفاء التناظر والتواجه باسم عالمية مُستكبرة تُذلُّ الآخر وتستعبده، وإنما يطلب تحقيق البناء المشترك لحضارة آدمية قوامها الحرية والعدل والسلم، “وحيث إنه ليس هناك أي أمل في بناء أي شيء على الإطلاق على احتيال عالمية زائفة مفروضة بالعنف ومؤبدة بنفي الآخر، فإن الرهان على أن هناك مجالا مشتركا للتعايش الأخوي ينبغي اكتشافه وبناؤه، يستحق عناء الإقدام عليه”[4]، وتبادل خبرات الوعي الإنساني وتجارب الشعوب واقتراحات الأمم من أجله، فهو مجال، لذا “يجب على الأنا الهوية الثقافية أو الحضارية الخاصة ألا تعتبر الآخر خطرا على هويته الخاصة، لكن يجب اعتباره حظا من أجل فهم العالم فهما جيدا، وضمنيا أيضا معرفة الذات في مرآة الحضارة الأخرى، يعني وعي الذات والآخر بطريقة نقدية”[5] مستقبلية تستحضر المطالب الكلية والغايات الكبرى، ولا تلتفت إلى الجزئيات والتفاصيل التي لا تبني وإنما تزين أو تشين.

وبناء على ما سبق تبرز ضرورة التفكير المشترك في تسخير المعارف والعلوم (علوم النصوص وعلوم النفوس وعلوم الأكوان) في خدمة الإنسانية جميعا، وتخليصها من خدمة الأهواء والسُّلط اللاهوتية والمعرفية والسياسية والاقتصادية والإديولوجية. إذ العالم اليوم في حاجة إلى عالمية مستوعِبة ومتجاوِزة، عالمية “تنطبق على البشر بوصفين: من جهة بوصفهم فاعلين مكلفين بتحقيق الأوامر التكليفية، ومن جهة، بوصفهم موضوعا لها”[6]، وتختزن كل إمكانات التعارف والتعايش والتعاون بين المسلمين وغيرهم، وتصلح مفاسد العالمية المادية الاستكبارية وتعالج أدواء النـزعات العرقية والقومية والطائفية والبراغماتية السلبية والعنصرية والفرعونية الاستعلائية. والتي في غالب الأحيان تمنع الإنسان أن يُنصت لأخيه الإنسان، وتجعل من التاريخ الـمُثقل بالحقائق والأباطيل، والواقع اليوم الـمُتلبس بالفتن مبررا صلباً يمنع من تجديد الصلة وطيّ الصفحة. لذلك نجدها “تتنافى نظرية المشترك الإنساني مع النظريات التمركزية المنغلقة حول ذاتها والمتهمة لغيرها”[7].

 التفكير المستقبلي تفكير بشرط الغير اعترافاً به وخدمة له عملا بمبدأ “نحن وأنتم شركاء في هذه الأرض”، نتعاون لنبني عمرانا مشتركا عامرا بالقيم الإنسانية الجامعة التي لا يُظلم فيها أحد ولا ينتهك حق ولا يضام فيها بشر. ويبقى “الحوار وحده الذي يمكن أن يولد مشروعا كونيا يتسق مع اختراع المستقبل وذلك ابتغاء اختراع الجميع مستقبل الجميع”[8].


[1]– بول، ريكور. الذات عينها كآخر، ترجمة، تحقيق:جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1،2005م.

[2] – يراجع: Maslow, A. H Preface to motivation theory. Psychosomatic Medicine, 5, 1943.85-92،

في: https://journals.lww.com/psychosomaticmedicine/Citation/1943/01000/Preface_to_Motivation_Theory.12.aspx، تاريخ زيارة الموقع 14 أبريل 2017

[3]– ابن خلدون، عبد الرحمن. المقدمة، تحقيق عبد السلام الشدادي، بيت الفنون والعلوم والآداب، الدار البيضاء، 2005، 1/68

[4]– سيرج، لاتوش. تغريب العالم، ترجمة خليل كلفت، النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط2، 1999م، ص138

[5]– هانس،كوكلر. المسلمون والغرب؛ من الصراع إلى الحوار، ترجمة حميد لشهب، الدار العالمية للكتاب، البيضاء، ط1، 1430هـ/2009م، ص146

[6]– الفاروقي، إسماعيل. التوحيد وأثره في الفكر والحياة، ترجمة السيد عمر، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، ط 1، 2014م، ص 298

[7]– حنفي، حسن. حصار الزمن، إشكالات، منشورات الاختلاف، الدار العلمية للعلوم، بيروت، ط1، 2007م، ص429

[8]– غارودي، روجي. من أجل الحوار بين الحضارات، ترجمة ذوقان قرقوط، دار النفائس، بيروت، ط1، 1990م، ص 9

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق