المقالات

التفكير الفقهي في التاريخ المعاصر: الطاهر بن عاشور أنموذجًا(يوسف محمد بناصر)_1_

تمهيد عام:

إنّ التفكير الفقهي في التاريخ الإسلامي يعرف عدة مستويات كما يعرف تحولات مهمة، فقد بدأ التأسيس له في القرن الأول الهجري لتكتمل دورته مع نهاية القرن الخامس الهجري، ولتبدأ دورته الجديدة بأسماء علماء وعلوم استجدت بوقوع وقائع في التاريخ الإسلامي أهمها الغزو التتري والصليبي للشرق الإسلامي.

فإذا اعتبرنا أنّ التاريخ عمومًا قد يعيد نفسه ولكن بصور مختلفة، يمكن أن نفهم لماذا عرف التاريخ الحديث اختلالات في ميزان القوى بين الشرق والغرب، وما الذي دفع بالمستعمر الأوربي إلى القيام بحملات استكشافية، ومن ثم استعمارية لأغلب العالم الإسلامي بغربه وشرقه، ومن ثمة نفهم الكيفية التي تعامل بها الوعي الإسلامي مع الظاهرة الجديدة على أنّها نتيجة تخلف وانسداد على الذات وعدم مراكمة علوم ومناهج كالتي حصلت لأوربا، أو قد نذهب مذهب من اعتبر أنّ القضية قدرية محض، أو نميل إلى فهم المسألة على أنها متعلقة بدورة تاريخية وسنن كونية تصيب كل الأمم مهما بلغ مجدها أو عملها وعلمها مع التاريخ؛ فما أن يتدهور الفكر والتفكير في أي مجتمع حتى تتدهور الأمة ويضمحل الإبداع والاجتهاد ويظهر إلى السطح التقليد والسلبية مهما كان دينها أو قيمها النبيلة.

ولد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور [1296-1379هـ/1879-1973م] في مرحلة حرجة من التاريخ التونسي والإسلامي على وجه العموم، وكانت الدولة التونسية تشهد تدهورًا في أمورها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وبدأت المطامع الاستعمارية تنهش في الاستقلال التونسي كما كان الأمر مع الدول العربية الأخرى، ولم تنجح المحاولات الإصلاحية التي تبناها أحمد باشا باي ومحمد الباي ثم محمد الصادق باي بمعية المصلح خير الدين التونسي، فكان لابد أن تتراكم الإشكالات السياسية والفقهية والثقافية مع الدخول الفرنسي لتونس، ليلزم مع هذه المستجدات ولادة وعي وعقل فقهي قادر على التعامل مع التحولات ومع هذه النوازل الجديدة، بطرق ومنهاجية غير تقليدية، يكون باستطاعتها استيعاب كل المتغيرات التي هبت بقدوم المستعمر إلى البلاد، لأنّ التحولات والإشكالات الفقهية والاجتماعية على الوجه الأخص كانت مع الاحتكاك بثقافة الأجنبي الوافد.

لقد استفاد الشيخ الطاهر بن عاشور من العلوم التي كانت متوفرة في زمانه وأبان عن انفتاحه على مختلف المناهج العلمية والأدبية الإنسانية، فكان بحق مثال الفقيه المجتهد المنفتح على عوالم جديدة من خلال فهم إيجابي للواقع المعاصر دون حساسية مفرطة، فتزعّم الإصلاح وقام بمجهودات إصلاحية في ميدان القضاء والتعليم والفتوى والفكر، كما تحمّل مشعل التغير الفقهي والفكري مع معاصريه في المغرب العربي، أمثال الحجوي الثعالبي المغربي [1291ـ 1376هـ موافق 1956م]، وعبد الحميد بن باديس[1889-1940م] الجزائري وغيرهما من المجتهدين والمصلحين المسلمين في الأقطار الإسلامية الأخرى.

لقد كان الوعي التاريخي عند الشيخ الطاهر بن عاشور وعيًا مبنيًّا على أساس الاستفادة من العلوم المتاحة ودمجها في المقررات التعليمية، وكانت التحولات المعاصرة قد بينت أخطاءً في الفهم الفقهي للشريعة الإسلامية وإنزالها، فتحرك مرة أخرى لبناء التفكير الإسلامي على أساس مقصدي غائي، فكانت تحفته المقصدية: “مقاصد الشريعة”، كما شهد على التدهور والظلم الاجتماعي في الوطن العربي وفي تونس خاصة، ولاعتقاده أنّ الإسلام إنّما جاء ليضمن الحقوق والفرص لكل الناس حسب جهدهم، وليحقق عدالة اجتماعية على مستويات معقولة، فقد كتب عن الظاهرة الاجتماعية السلبية كتابيه: “أصول النظام الاجتماعي في الإسلام” و”الوقف وآثاره في الإسلام”.. إلخ.

ولعلّ أهم ما كان يستحضره الشيخ في أغلب تآليفه هو دعواته المتكررة إلى ضرورة التجديد والاجتهاد والنظر العقليين في المسائل المستجدة، وتأكيده أنّ الشريعة لها مقاصد وغايات، وأنّ العلوم الإنسانية من المفروض على العقل المسلم أن ينفتح عليها بشكل تمنحه سعة أفق في التفكير والإبداع، ولعلّ عمله ونشاطه الثقافي والعلمي كان منصبًّا على تحقيق النهضة الاجتماعية والثقافية المستوعبة والمتحرّرة من القيود البالية التي تراكمت مع التاريخ، فمنعت قدرات العقل والإبداع من الانطلاق، كما أكّد الشيخ المجدّد أهمية الإنسان المسلم في مشروعه الإصلاحي، فكان اعتقاده أنّ الإصلاح الاجتماعي لا يتم إلا بإصلاح الفرد ببنائه النفسي وتربيته على أسس وقيم عقدية صحيحة، دون إغفال القيم الإنسانية التي يجب أن يتخلق بها المسلم لأنّها من عقيدته السامية، فخلص بذلك إلى أنّ بنية الأزمة الإسلامية ترجع بالأساس إلى الأزمة العقدية والدينية التي كان من تبعاتها الجمود والخمول في كل المستويات. ولم ينس -بطبيعة الحال- حضور الآخر في الذهنية الإسلامية باعتباره مستعمرًا ومتفوقًا، ولكن هذا لا يعني القطيعة معه أو عدم الاستفادة منه، بل دعا إلى أن تكون جسور التواصل والتعارف مفتوحة بين الطرفين، وجعلها من الضروريات التي يجب أن يتنبه إليها المسلمون لأنّ تداخل المصالح وتقارب الدول وانفتاح العالم على مصراعيه على كل الأجناس والثقافات، يجعل على الإنسان المسلم ثقل إثبات قدرته على المساهمة الإيجابية في المشترك الإنساني، كما أنّه قادر على إدراك المعطيات المستجدة واستيعابها والتعامل معها بالعقلانية والعلمية الواجبة.

1ـ مساهمة ابن عاشور في التوجيه العلمي لقضايا الأمّة:

شهدت نهاية القرن التاسع عشر تحوّلات في الجغرافية الإسلامية، إذ أطبق الاستعمار الأجنبي طوقه على المنطقة العربية، وبدأت ثقافة الوافد الجديد تترسخ، باعتبارها قيمًا جديدةً منافسةً للقيم التقليدية للمجتمع، فكان اللباس مظهرًا من مظاهر التحوّل الشكلي في المجتمع العربي خصوصًا في الطبقات المحتكة بالأجنبي، وكانت المفاهيم التي تناقش مختلف القضايا مظهرًا مختلفًا للتحول الفكري والثقافي في بنية المجتمع العربي، فهذا الحراك في الشكل والعمق استلزم معه تحرك الباحثين والمتتبعين وخصوصًا منهم الفقهاء الذين استنكروا أغلب قيم المستعمِر، ليجدوا أنفسهم ملزمين بالبحث عن جدار ثقافي ومعرفي يقوّي ظهر الثقافة الوطنية، ويحمي عقيدة الشعب من أن تستقر في الأذهان مفاهيم المؤسسة الاستعمارية، وقد لعب الشيخ الطاهر بن عاشور[تـ12 أغسطس 1973م] في هذه الفترة بالذات، باعتباره عالمًا وفقيهًا ومصلحًا، ومطّلعًا على مرتكزات الفكر الوافد، دورًا مهمًّا في الأحداث الثقافية التونسية، فأبان عن سعة أفق وشجاعة علمية وإرادة إصلاحية قوية.

إنّ دراسة منحى التفكير الفقهي عند الشيخ الطاهر بن عاشور لا يعني بالضرورة جرد المسائل الفقهية التي تطرّق إليها وهي ليست – من ناحية ثانية- دراسة مستفيضة لفتاواه واجتهاداته، بقدر ما هي محاولة لمعرفة بعض ملامح انفتاحه على مختلف القضايا المطروحة بذهنية مستوعبة للتحول التاريخي، الذي يعيش على وقعه الشعب التونسي، والأمّة الإسلامية عمومًا آنذاك؛ فالمسافة التي ستجمع الشيخ بالمنظومة الفقهية الكلاسيكية عند تعاطيه مع القضايا المستجدة قد تعطينا فرصة لرؤية المصادر التي يرجع إليها الشيخ للإجابة على كل ما يعترضه من أسئلة.

فما مدى وعي الشيخ بضرورة تعامل الفقيه مع الظواهر والنوازل الجديدة بشكل تكاملي استيعابي، دون أن يحصر الإجابة في جزئية فقهية أو يغفل عن السياق التاريخي والتحديات المتراكمة والأبعاد التي ستنتج عنها؟ أو بمعنى آخر، هل يمتزج في شخصية ابن عاشور بعد الفقيه المفتي والمصلح الاجتماعي والمثقف المسيس عندما تستوقفه قضية أو إشكالية ما؟

إنّ الباحث عندما يتصفح كتابات أي مصلح اجتماعي أو ديني يجد أنّ ذلك المصلح لا يكتب مؤلفه غالباً إلا تحت ضغط واقع معين أو أسئلة آنية استدعت الكتابة والإجابة على بعض الإشكالات المطروحة في سياقها الاجتماعي والتاريخي. والشيخ الطاهر بن عاشور ليس بدعاً من المؤلفين، إذ أنّه صادف تاريخًا مأزومًا وتحولات إقليمية ومحلية، فرضت عليه التعامل معها بشكل واع، وأن يستحضرها في تحليلاته، فتجلى ذلك في عناوين أغلب كتبه. فـمثلا: “تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد” كان نتاج سنوات طويلة -قاربت الأربعين سنة- من البحث والدراسة لكتب التفسير المشهورة، ليخرج بكتابه وبالعنوان الذي يصف حاجة مرحلته إلى تجديد وتنوير للعقول، خصوصًا بعدما لاحظ أنً الكثير من التفاسير هي: “عالة على كلام سابق، حيث لا حَظّ لمؤلفه إلا الجمع، على تفاوت بين اختصار وتطويل”[1]، وقد اكتشف في نفسه القدرة على أن يجدد في فهم الآيات وأن يضيف ما فتح الله عليه من المعاني والتأويلات في اختصار غير مخل: “وقد ميزت ما يفتح الله لي من فهم من معاني كتابه وما أجلبه من المسائل العلمية، ومما لا يذكره المفسرون، وإنما حسبي في ذلك عدم عثوري عليه فيما بين يدي من التفاسير في تلك الآية خاصة”[2] حتّى لا يكون في بعض الأحيان ذلك المفسر الذي لم يأت بشيء يقنع به المتلقي، كما فعل الرازي والبقاعي في تفسيرهما[3]. ومنذ البداية حدد الشيخ الطاهر بن عاشور منهجه في تفسيره قائلاً: “واهتممت بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية، بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة…، وبذلت الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير…”[4]، وربما لسعة اطلاعه على التفاسير السابقة وكشفه عن بعض الاختلالات التي شابت منهج المفسرين، فإنّه معتز بما توصل إليه من نكت جمّة ومن مسائل مكملة ومتماسكة، حتى عدّ تفسيره مرجحًا على غيره من التفاسير رغم اختصاره: “بحيث ساوى هذا التفسير على اختصاره مطولات القماطير، ففيه أحسن ما في التفاسير، وفيه أحسن مما في التفاسير”.[5] فانفتاحه على المعارف والعلوم التقليدية مكّنه من كشف بعض الاختلالات المنهجية التي شابت منهج المتقدمين، ولكنه لم يقف صامتًا أمام ما اكتشفه من اعوجاج منهجي ومعرفي عندهم ـ كما فعل بعض المتأخرين- بل تجرّأ على الكشف عنها وبسطها ثم قدّم البديل كما يعتقده، وذلك بيّن مما سبق ذكره في علاقته مع التراث التفسيري، مع حفاظه على الاحترام الواجب لهم ولجهودهم التي قدموها قائلاً: “وحاشا أن ننقضه أو نبيده، عالمًا بأنّ غمط فضلهم كفران للنعمة، وجحد سلفها ليس من حميد خصال الأمّة”.[6]

ومن الملاحظ أنّ الأستاذ الشيخ ابن عاشور قد تحيز للمباحث اللغوية في كثير من المواضيع التي اشتغل عليها وأظهر براعته فقيهًا ولغويًّا، حيث لا يبحث في قضية من القضايا إلا بعدما يكشف عن غموضها اللغوي والبياني، وإن تجلى ذلك في تفسيره بشكل واضح وعبّر عنه في مقدمته بأن منهجه، منهج بياني يكشف عن وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال، فقد كان هذا دأبه مع: “كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ” الذي تناول فيه بالتوضيح وبالتوسعة أحيانًا أخرى بعض الأحاديث الواردة في موطأ الإمام مالك بن أنس، ولكن غلب عليه في أحيان كثيرة الطابع اللغوي.[7]

إنّ رد الشيخ ابن عاشور على الشيخ عبد الرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” بكتاب سماه: “نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم”، يعتبر انفتاحًا على النقاشات الدائرة في الوطن العربي، وهو في حد ذاته يعبر عن مدى متابعته لآخر السجالات العلمية التي حدثت في زمانه، مما يعني أنّه شخصية مستوعبة لما يقع في محيطها.

إنّ التفكير الفقهي عندما ينغلق على نفسه ويحدد مسارًا واحدًا ووحيدًا في التفكير، وغالبًا ما يكون في الاشتغال بجزئيات فقهية أو مذهبية، يجعل إمكان وقوع التغيير في المعرفة مستحيلاً، لأنّه يكرر الموجود ولا يجيب على الجديد إلا بالرجوع الدائم إلى القديم ولو لم يسعفه. ورجوع العقل الفقهي إلى القديم هو تعبير عن أزمة في القدرة على التصدي للإشكالات المطروحة، بالهروب إلى الماضي. ويعدّ الشيخ الطاهر بن عاشور من الفقهاء الذي بنوا مواقفهم الفقهية والفكرية على اجتهاد منفتح على المستحدث من النوازل بعقل متفهّم وفاحص. فنزعات بعض أفراد المجتمع التونسي إلى التحرر الفكري، وتمثل قيم الغرب جعل الشيخ ابن عاشور ينظر إلى الواقع التونسي على أنّه واقع متحرك وفق ظروف معينة، ولا يمكن للفقيه النبيه أن يحكم في هذه الظروف فقط بالفتاوى الفقهية، ليتم ضبط المجتمع وتوجيهه نحو تماسك موهوم ومترهل مع كل تلك الاختلالات التي عريت مع استقرار الاستعمار، ولا يتم ذلك – أيضا- دون استحضار واع للبنية التي تستفتيه ثم التنبّه لغياب أرضية ثقافية واجتماعية وتربوية لديها القابلية للتماسك لمواجهة رياح التغيير العاصفة؛ التي فرض وقعها المستعمر الفرنسي على مختلف المهتمين من الفقهاء والمثقفين، وخصوصًا على فئة البسطاء وعامة الناس.

فمحاولته التفسيرية -ربما- تبين قدرته على التفسير، وتكشف مدى اطلاعه على البيان والبلاغة العربية، ولكنّها لا تكشف بشكل واضح وعميق عن تعامله مع قضايا يومية ومعيشية وثقافية تضرب باستمرار الثقافة الإسلامية في بلده كما تثقل كاهل البسطاء من الناس، وتجعل فكر النبهاء في حيرة، تمنع عنهم التفكير السليم في المسائل العالقة.

فقدرة الشيخ الطاهر بن عاشور العلمية والمعرفية والفقيهة تتجلى أكثر في كتبه “نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم” و”أصول النظام الاجتماعي في الإسلام” وفي كتابه “أليس الصبح بقريب، التعليم العربي الإسلامي، دراسة تاريخية وآراء إصلاحية”، على الرغم ممّا لكتبه الأخرى من أهمية علمية وتأسيسية، لكن هذه المدوّنات الفكرية والعلمية توضّح السياقات التاريخيّة التي حكمت تصرفات الشيخ، كما توضح تداخل عقلية الفقيه المستوعب للعلوم الشرعية مع فطنة المصلح الاجتماعي المدرك للمتغيرات التي تتوالد باستمرار.

فقيامه بواجب الإصلاح للمنظومة التربوية والتعليمة التونسية، ونقده للطريقة التي يمارس به التعليم والتلقين، بالإضافة إلى معرفته بمستويات الأجانب في طرق تحصيل المعرفة والمباحث التي يدرسونها، جعلته يوفّق بين المباحث التقليدية في العلوم الشرعية، وبعض المعارف والعلوم الأخرى، كل ذلك من أجل تمتيع الطالب والباحث بمستوى علمي رفيع؛ يمكّنه من قيادة بلده نحو التحوّل المنشود، فكما يقول الباحث محمد الطاهر الميساوي: “لم تكن همّة ابن عاشور وتطلعاته الإصلاحية وخاصة في المجال الفكري والعلمي قاصرة على فروع دون أخرى من فروع المعرفة الإسلامية، وإنّما كانت رؤيته الإصلاحية شاملةً لكل العلوم التي كانت تدرّس في جامعة الزيتونة، وفي نظائرها من مؤسسات التعليم الإسلامية كالقرويين والأزهر”.[8]

إنّ الحركة الإصلاحية التونسية التي شارك فيها الطاهر بن عاشور كان لها تأثيرها الخاص في كتاباته، “فلا يمكن اعتبار الحركة الإصلاحية في تونس وغيرها مجرد نظريات دوّنت في الكتب، ويمكن دراستها من غير اعتبار لتأثير الظروف”[9]، فقد بصم الحراك اليومي والوقائع المتراكمة على تصوّرات الشيخ الإصلاحية، فتحدث عن مفاهيم عدّة ارتبط نقاشها بتلك المرحلة الحرجة من تاريخ الشعوب العربية، وكانت أهم تلك المفاهيم: الحرية، المساواة، العدل، الحكومة والدولة الإسلامية، التفكير في الإسلام، الإصلاح الاجتماعي والتعليمي، قضية المرأة، واقعية الشريعة، وعلاقة الدين بالإنسان…فمزج بين متطلبات المجتمع في التوصل إلى إجابات على النوازل الفقهية وبين تحديات الواقع الذي تتوالد فيه إشكالات تكاد تعصف بالاعتقاد ووجود الشريعة. ولكن كان كل الأمل في أنّ المجتمع بدأ يعي ضرورة مواجهة التحدي الاستعماري بالقيم الدينية العليا مع الانفتاح على فضائل النظام الوضعي، فكان حرص رجال الإصلاح في تونس على تأسيس دعوتهم على ملاحظة مقاصد الشريعة واجتهدوا، ليبنوا أنّ اقتباس بعض النظم الدنيوية التي ظهرت نجاعتها في أوربا، لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، بل يتفق واتجاهاتها العامة وهي تتلخص فيما سماه علماء المسلمين قبل ذلك بالمقاصد أو الكليات،[10]فتأليف الطاهر بن عاشور لمؤلّفه “مقاصد الشريعة الإسلامية”، إنّما كان الهدف منه توضيح مقصدية الشريعة الإسلامية وصلاحيتها في كل زمان ومكان، بدل التوقف على ظاهرها والتمسك بحرفية المعاني، وهو ما يغلق على المجتهد – في الأخير- أفق الاجتهاد واستيعاب الحوادث المتجددة، أو تصدر عن الفقهاء استنباطات ينكرها العقل أو يتوهم عدم صلاحيتها. “فواجب الاجتهاد، من أجل هذا كانت الأمة الإسلامية بحاجة إلى علماء أهل نظر سديد في فقه الشريعة، وتمكن من معرفة مقاصدها، وخبرة بمواضع الحاجة في الأمة، ومقدرة على إمدادها بالمعالجة الشرعية لاستبقاء عظمتها”،[11] فمن مقاصد الشريعة حفظ هيبة الأحكام الشرعية والعمل على انتظام أمر الأمّة، بجلب المصالح ودفع الفساد عنها،[12]فلا ينتظم أمر الأمة بأحكام شرعية لا تستحضر مختلف الوقائع المحيطة بالنازلة، ولا تُولِي اهتمامًا بالأبعاد التي ستكون للأحكام المستنبطة على مستقبل الأفراد والمجتمع، لذلك فالأمّة بحاجة إلى: “علماء أكفّاء يقيموا بينهم أوسعهم علمًا وأصدقهم نظرًا في فهم الشريعة فيشهدوا لهم بالتأهل للاجتهاد في الشريعة”.[13] لقد عمل ابن عاشور على استحضار مختلف الظروف المصاحبة لولادة الحكم الشرعي؛ الذي يأتي ليخدم مصالح الناس ويدفع عنهم الضرر والغل، ولا يصلح الحكم الشرعي إلا بصلاح العقول التي تتعامل مع النصوص المؤسسة لاستنباط الأحكام والعقول التي تطبقها، فالعقل والتفكير الفقهيّان يجب أن يكونا موضوع إصلاح أيضا، فالقاعدة تقول( ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب)، فـ”إصلاح التفكير من أهم ما قصدته الشريعة الإسلامية في إقامة نظام الاجتماع من طريق صلاح الأفراد”.[14]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق