المقالات

الاحتجاج في تاريخ الإسلام(محمد الصياد)_4_

دوافع سياسية:

ولا تقلُّ الأسباب سياسية الكامنة وراء أنشطة الاحتجاج أهمية وكثرة عن نظيرتها الاقتصادية؛ ومن ذلك أن الناس قد تحتج رفضا لتولية مسؤول معيَّن ترى في سيرته الذاتية فسادا إداريا أو فكريا أو أخلاقيا.

فمسألة تولية الولاة وعزلهم لم تكن أمراً سلطانيا صِرفا كما قد يظن البعض، بل كان رضا العامة عنهم -وهو ما يُسمَّى اليوم في العلوم السياسية بـ”السيادة الشعبية” أو “المشروعية الشعبية”- عاملا مهما في ترتيباتها.

ولذلك كان الخلفاء الراشدون حريصين على استرضاء العامة عند تعيين المسؤولين عنهم من الولاة وغيرهم؛ فقد جاء -في ‘صحيح البخاري‘- أنه “شكا أهل الكوفة سعدا (= سعد بن أبي وقاص ت 55هـ/676م) إلى عمر، فعزله [عنهم] واستعمل عليهم عمارا (= عمار بن ياسر ت 37هـ/658م)”، وكان ذلك سنة 22هـ/644م؛ وفقا للذهبي (ت 748هـ/1347م) في كتابه ‘العِبَر‘.

وفي مثال مشابه حصل بعد قرون في مصر، مما يوحي بأن ظاهرة الاحتجاجات الشعبية الضاغطة تواصلت زمنيا وتمددت جغرافياً؛ يقول ابن حجر -في ‘إنباء الغُمْر‘- إنه في أحد أيام سنة 775هـ/1374م “اجتمع العوام بالمصاحف وسألوا [الأمراءَ] أن يعزلوا علاء الدين بن عرب (ت بعد 781هـ/1379م) عن [ولاية] الحسبة، فعُزِل”. ويقول إنه في سنة 791هـ/1389م “اجتمع العوام فشكوا من المحتسب، فأحضره.. [الأميرُ] وضربه مئتيْ عصا وعزله”.

وفي ترجمة عبد الرزاق الجركسي المؤيدي (ت 868هـ/1463م) يقول الإمام السخاوي (ت 902هـ/1496م) -في ‘الضوء اللامع‘- إنه تولّى ولاية حلب بالشام “فلم يُحمْدَ فيها ورُجِم من أهلها فصُرِف (= عُزل)..، واستقر به [الأمر] في نيابة الشام (= دمشق) فلم تحمد سيرته أيضا لطمعه وشُحِّه وشَرَهه وإسرافه على نفسه إلى أن مات بها..، وسُرَّ أهل دمشق بموته كثيرا، ومَنَع العامةُ من دفنه فلم يُدفَن إلا بعد يومين”!

فهنا نجد العامة يفرحون بموت الظالمين والمفسدين ويجهرون بذلك في مظاهرة خرجوا فيها احتجاجا على دفنه في مقابرهم، وهذا نوع من الضغط الاجتماعي الذي يُرهِب كل من يعمل بالسنن السيئة في الشأن العام.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق