أين احتفظ النبي بأخطر أسرار دولة الإسلام؟(عصام تليمة)
لكل دولة أسرارها، وبخاصة فيما يتعلق بأعدائها في الداخل، أو ما يسمى بالطابور الخامس، من أهل النفاق، الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، وهؤلاء خطرهم أشد من العدو الصريح، لأنهم مخفيون، وليس من اليسير اكتشافهم، وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسرار الخطيرة، وهي قائمة بأسماء المنافقين لدى صحابي جليل، لم يشرك معه أي صحابي آخر في هذا السر، ولذا سمي: بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. وهنا يطرح الإنسان عدة أسئلة حول هذه الأسرار الخطيرة التي لم يودعها صلى الله عليه وسلم عند مجموعة من كبار صحابته، بل عند رجل واحد فقط، هو حذيفة بن اليمان: لماذا أخبره بها وحده؟ لماذا لم يعلن بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين ليكشفهم للمجتمع؟ وكيف تعامل حذيفة مع المنافقين وقد أصبحوا كتابا مفتوحا له؟ ألم تفضحه فلتات لسانه، أو صفحات وجهه في التعبير بذلك حين يرى هؤلاء المنافقين، وهم بين صفوف المؤمنين في المجتمع؟ وماذا لو تقدم أحدهم للزواج بابنة حذيفة، أو بابنة صديق أو قريب له، واستشاره والد الفتاة في هذا المتقدم، والمستشار مؤتمن؟ ألم يواجهه موقف لأحد هؤلاء وقد أراد مخادعة الناس والمؤمنين، وإبراز شيء غير ما بداخله، أو ادعى العلم أو البطولة بينما يخفي بداخله عكس ذلك؟ لا يتسع المقال لكل هذه الأجوبة، لكن بعضها يجيب عن الكل. لماذا حذيفة تحديدا؟ السؤال الأهم هنا: لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة رضي الله عنه، دون غيره من الصحابة، وكلهم أهل فضل وثقة، فلم يختر أبا بكر أو عمر أو عثمان أو عليا، وكلهم من الخيرة من صحابته، ولم يختر أبا عبيدة أمين الأمة، فلو كان الصدق مطلوبا في المهمة فهنا الصديق أبي بكر، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار للمهام أكفأ الناس لها، رغم وجود آخرين أكفاء، لكنه من حيث المواصفات المتوافرة يكون حذيفة الأعلى كعبا في هذه المهمة، فالمطلوب هنا شخص يحتفظ بأسماء المنافقين، وهو سر خطير جدا في الدولة، وقد يؤدي عدم تماسك حافظ هذا السر إلى إحداث فتنة لا يعلم مداها إلا الله، فلا بد له من مواصفات خاصة.
ثبات انفعالي فذ:
فمن يتأمل صفات حذيفة، سيجده عدوا للنفاق، وكارها له، وكل الصحابة كذلك، ولكنه مع هذا العداء يمتاز بثبات شديد، وهو ما يطلق عليه الآن: الثبات الانفعالي، فلا يستطيع أحد أن يستفزه لإخراج ما بداخله، ولا يستفزه الموقف، ما دام لديه تكليف معين، لا يتجاوزه، وهو ما جربه النبي صلى الله عليه وسلم في موقفين خطيرين قبل أن يفصح له عن أسماء المنافقين، ويكشف له أخطر ملف في المجتمع والدولة المسلمة. اتضح هذا الثبات الانفعالي في موقفين يصعب أن يمر بسهولة مع شخصية أخرى، الأول: مقتل أبيه على يد الصحابة بالخطأ، ففي غزوة أحد بعد نزول الرماة من على الجبل، أصاب جيش المسلمين حالة من الهرج والاضطراب، فكان أبو حذيفة ممن تواجدوا في هذه اللحظة، فظنه المسلمون من المشركين فنزلت عليه السيوف تنهش جسده من كل مكان، وكان حذيفة يلتفت مصادفة، فوجد أباه يمزق بسيوف المسلمين، فصاح فيهم: أبي، أبي، إنه أبي، فاستشهد أبوه بأيدي إخوانه! وحين عرف المسلمون أصابهم الهم والغم لما حدث خطأ، فماذا كان رد حذيفة، قال لهم: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، وقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية لأبيه، لأنه قتل خطأ، فاعتذر حذيفة عنها، وتصدق بها على المسلمين. ولا تروي لنا كتب السيرة كلمة غاضبة، أو أمسك بقاتلي أبيه، ليعنفهم، ولو فعل ما لامه أحد، لكنه رزق صمودا أسطوريا في هذ الموقف.
انضباط والتزام بالعهد والتكليف:
أما موقفه الثاني فكان في غزوة الخندق، وهو موقف كاشف عن ثبات انفعالي كبير جدا، وشجاعة نادرة، فقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من صحابته قائلا: أيكم يأتينا بخبر القوم، وأضمن له العودة، وهو رفيقي في الجنة؟ ولم يقم أحد، وبين الناس كبار الصحابة، وذلك للرعب الذي أحاط بهم، فأعادها صلى الله عليه وسلم ثلاثا، ثم قال: قم يا حذيفة، وكلفه بالذهاب، وطلب منه ألا يحدث أمرا، يذهب فقط لنقل واقع جيش الأعداء. وبالفعل ذهب وجلس بينهم، وعرف ما لديهم، وواتته فرصة عزيزة لقتل أحد أهم أكبر قادتهم، وهو أبو سفيان، وكان وحيدا منعزلا في حالة يمكنه أن يضربه بسهم فيقتله، فقال حذيفة: لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي ألا تحدث فيهم شيئا حتى تأتيني، لقتلته بسهم. فهذا الموقف كشف عن صفات في شخصية حذيفة، من حيث الدهاء، حيث قال لهم أبو سفيان وهم في الخيمة، أن يسأل كل شخص من بجواره، وكان أبو سفيان داهية، لكن دهاء حذيفة كان أشد، فبادر حذيفة فسأل من عن يمينه ومن عن شماله: من أنت؟!
جهاز كشف النفاق بعد حياة النبي:
والألقاب التي منحت للصحابة لا شك أنها وحي، فاختيار حذيفة كذلك، ولأنه سيعيش بعد النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، فوضع الأسماء مع شخص يظل بعد النبوة فترة ليكون صمام أمان للمسلمين بعده، أمر مهم، وأصبح لدى المجتمع خبرته في معرفة النفاق وأهله، ولذا قال حذيفة: إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون!! وقد كان عمر بن الخطاب حريصا على ألا يقع في فترة حكمه في اختيار شخص من المنافقين، وكان يلح في السؤال على حذيفة، فسأل عمر حذيفة عنهم فقال: ما أنا بمخبرك أحد منهم ما كان حيا. فقال عمر: يا حذيفة أمنهم أنا؟ قال: لا. قال: أفي أصحابي منهم أحد. فقال: رجل واحد. قال: فكأنما دلّ عليهم عمر حتى نزعه من غير أن يخبره به. فعمر كان حريصا على تنقية صفوف أمرائه ومقربيه منهم، ولما أخبره حذيفة أن أحد ولاته منهم، تفرس عمر من يكون الشخص، ونزعه دون أن يخبره حذيفة بالاسم، وبطريقة لا تلفت النظر إليه من تصرف عمر.
طبيعة حذيفة ونمط تفكيره:
والمتأمل لطبيعة حذيفة، ونمط تفكيره، يجده رجلا كثير التفكير في الأمر المقابل، ويفكر فيما يغيب عن الناس، فهو يخشى دائما الخطر، ويخشى دائما من الثغرات التي يؤتى منها الإنسان فيهلك، أو الناس فتذهب ريحهم، أو الإسلام فيكون في خطر، ولذا كان الناس يسألون عن الحلال، وهو يسأل عن الحرام مخافة الوقوع فيه، فإن تجنب الحرام، يقينا سيجعله في دائرة الحلال والمباح. كما أن طبيعته تستشعر الخطر، وتحس به، وتذهب لسد أبوابه، ومن ذلك جمع القرآن في عهد عثمان، فقد كان ببصيرة منه، حين رأى القتل يستحر في صفوف القراء من المسلمين، وبدأت بوادر الخلاف تدب بينهم في القراءات، فهرع إلى عثمان رضي الله عنه، ليجمع القرآن، ويوحد المصاحف قطعا لدابر هذه الفتنة من جذورها، وفي بدايتها.
لماذا أخفى النبي أسماء المنافقين مع خطورتهم؟!
أما السؤال المهم الآخر، فهو: لماذا أخفى النبي صلى الله عليه وسلم أسماء المنافقين، وهم أخطر من الكافرين، فالكافر عداؤه واضح، بينما المنافق يتلون كالحرباء، فهو جواب يطول عند التفصيل، لكننا نجمل ما نراه في الجواب، وهو: 1ـ لأنه وضع للأمة المنهاج الذي يتم التعامل به معهم، وأوضح العلامات التي يتميز بها هؤلاء، عقيدة وعملا. 2ـ ليس في نفاقهم ما يتعلق بعقيدة الناس، بل بعقيدتهم هم، ومعاملاتهم هم. 3ـ المجتمع كان في غالبه الوضوح، وكان سريعا ما يكتشف المخالف. 4ـ لم يكن عددهم كبيرا، بحيث يقلق النبوة، أو المجتمع، ومع ذلك أخبر بهم حذيفة. 5ـ لم يعلن عن الأسماء مخافة ردود الأفعال، وما تحدثه من فتنة، فقال صلى الله عليه وسلم: أخشى أن يقال: إن محمدا يقتل أصحابه، فالخوف من الحرب الإعلامية مهم، وله أثره، ولا بد من مراعاته. 6ـ ليترك للمجتمع تحصين نفسه بنفسه فليس كل شيء يبينه، ولأن الظاهرة متكررة في كل زمان ومكان، ولا بد من وفاته، فالدور هنا متروك للمجتمع. 7ـ أملا في علاج بعضهم، فالإعلان قد يغلق باب الرجعة، قال حذيفة: ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين! فقال عبد الله: وما علمك بذلك؟ فغضب حذيفة، ثم قام فتنحَّى. فلما تفرّقوا، مرَّ به علقمة فدعاه فقال: أمَا إنّ صاحبك يعلم الذي قلت! ثم قرأ: (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا)، وفي ذلك اعتراف من حذيفة بأن من المنافقين من تاب.



