المقالات

حزب الاستقلال ومقاربته لموضوع العلماء:(عبد الرحمن منظور الشعيري)

يعد حزب الاستقلال نموذجا للأحزاب السياسية الوطنية التي يشكل البعد الديني رافدا تاريخيا أساسيا في منظومتها الإيديولوجية، خاصة وأن الحزب نشأ من رحم الحركة الوطنية بميولاتها الدينية السلفية، بزعامة ثلة من الشخصيات الوازنة سياسيا وفكريا وفقهيا من أمثال علال الفاسي[1] وأبو بكر القادري وعبد الكريم غلاب.

فعلى المستوى النظري المحض يتبنى الحزب الإيديولوجية الاستقلالية المشهورة بنعت “التعادلية” لتمسكها بالمرجعية الإسلامية المنفتحة على مكتسبات التراث الإنساني في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وذلك من منطلق الإيمان بالدين وبأثره في تكوين الفكر وتوجيه المجتمع[2] ووفق قراءة أصبحت منذ وفاة الزعيم علال الفاسي تنزع نحو تأويل “ليبرالي” للشريعة الإسلامية، من خلال الإعلاء من المعطى البراغماتي والواقعي في تمثل القيم الدينية بالشكل الذي لا يمنحها حضورا مرجعيا قويا في تحديد الخطاب والسلوك السياسيين للحزب، مع استمرار حضورها الموسمي في خطابه السياسي من خلال دفاعه عن المرجعية الإسلامية للدولة المغربية بصيغة متماهية مع الخطاب الديني للدولة.

فقد أدى إدراك حزب الاستقلال لأهمية المسألة الدينية ولوظيفة العلماء في التأطير الفقهي لأفراد المجتمع المغربي، إلى مراكمته لوثائق مرجعية مهمة، صدرت عن مؤتمراته وبرامجه الانتخابية، وجمعت زبدة تصوراته ومقترحاته في المجال الديني. ومن ثم اعتبر المقرر المذهبي للحزب الصادر عن مؤتمره الثاني عشر في الفصل المتعلق بإرساء العقيدة الإسلامية الصحيحة ” بأن رسالة العلماء والدعاة في الوعظ لتعزيز مرجعية المجتمع الإسلامية، تبقى قاصرة عن أداء وظيفتها وتأثيرها ما لم تسند بالتغيير الاقتصادي والاجتماعي المنوط بمقدرات السلطة التنفيذية؛ كا ورد في نفس المقرر المذهبي الاستقلالي: “… يؤكد برنامجنا المستقبلي على ضرورة المحافظة على الطابع الإسلامي للمجتمع المغربي في وجه سياسة التغريب والانحرافات التي تغزو مجتمعنا […] ولن يحافظ مجتمعنا على طابعه الإسلامي بمجرد الوعظ، بل لن يكون بإمكانه ذلك، إلا إذا غيرنا الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعزز الانحرافات، وإلا إذا كانت التربية في المدرسة قبل المنزل قائمة على مبادئ الأخلاق الإسلامية، وقامت التربية الثقافية على تشجيع الكتاب والدراسات الإسلامية، ونشر التراث الفكري الإسلامي، وبعث الرسالة التثقيفية للمسجد والعناية بالثقافة الإسلامية”.[3]

كما عمل حزب الإستقلال من موقعه كحزب محافظ ثقافيا وسياسيا، وله حضور وازن في الحكومات المغربية منذ تجربة التناوب التوافقي لسنة 1998[4] على صوغ مقترحات وملتمسات تهم تدبير ملف العلماء والحقل الديني برمته في برنامجه الانتخابي للاستحقاقات التشريعية لشتنبر سنة 2007، ففي المحور السابع من هذا البرنامج المعنون ب “إدماج المغرب في مجتمع المعرفة والإعلام” دعا الحزب في النقطة الرابعة إلى “التشبث بالهوية الوطنية وبمبادئ الوسطية والاعتدال، وتأهيل الحقل الديني، وذلك وفق الإجراءات التالية:

  • تشجيع العلماء للقيام بدورهم في الإرشاد والتوجيه، وانخراطهم بفعالية في تيار الإصلاح ومحاربة الفساد والانحراف.
  • تشجيع الاجتهاد، حتى يكون تأويل النصوص القرآنية والسنية مسايرا للعقل وروح الشريعة وأصولها ومتجاوبا مع قضايا العصر.
  • السعي لتكون الشريعة والقيم الإسلامية في مكانتها الطبيعية في المجتمع، وتوجيه القنوات والوسائط التربوية في اتجاه تبسيط المفاهيم الإسلامية وفق ما جاء في الكتاب والسنة، بعيدا عن كل غلو وتشدد.
  • إقرار برنامج إعلامي لنشر قواعد الإسلام وقيمه على لسان الضالعين في الدين واللغة والمنفتحين على التطور وبصفة خاصة في المجتمعات الإسلامية.
  • مراجعة مقررات التربية الإسلامية في المدارس، بما يخدم الفكر الإسلامي مع الحرص على قيم الوسطية والاعتدال.
  • إحداث معهد للفكر الإسلامي، يضمن تكوينا علميا رفيعا للدعاة، وتفتح أبوابه أمام الطلاب في جميع التخصصات.[5]

وتبقى هذه المقترحات في حقيقتها مجرد أماني وتوجهات فكرية استقلالية، حاولت رفع الحرج أمام القواعد الحزبية والرأي العام، ويتأكد ذلك جليا في عدم تبلورها عمليا إلى سياسات عمومية إبان قيادة حزب الاستقلال للعمل الحكومي برئاسة الوزير الأول السابق عباس الفاسي، وإن كان هذا الأخير يعي جيدا استحالة تطبيق ذلك لخضوع الحقل الديني بكافة جوانبه التدبيرية للمجال المحفوظ للمؤسسة الملكية.

وبالإضافة إلى تطرق وثيقة “الثقافة والإنسية المغربية” في المؤتمر الخامس عشر لحزب الاستقلال[6] إلى موضوع الهوية الحضارية للمغرب وبالأخص إلى المرجعية الدينية المتمثلة في الإسلام وقيمه الإنسانية، اقترح الحزب في مشروع وثيقة الشؤون الاقتصادية في نفس المؤتمر، بنفس اقتراحي أكثر تدقيقا، إنشاء مجلس علمي للدراسة والإفتاء والمراقبة الشرعية وتشجيع البحث والاجتهاد في مجال الزكاة، وذلك ضمن مقترحه الرامي إلى تشجيع الاقتصاد التضامني من خلال إحداث مؤسسة اقتصادية واجتماعية لتطبيق الزكاة.[7] ويندرج هذا المقترح الاستقلالي في إطار استمرار تشبث حزب الاستقلال بمطالبه التقليدية المعروف بتبنيها في النسق السياسي كإرث تاريخي مستلهم من فكر زعيمه التاريخي الراحل علال الفاسي من قبيل: الدفاع عن تعريب الإدارة وضرورة تطبيق الزكاة، ومنع بيع الخمور للمسلمين وتفعيل أدوار العلماء على مستوى الإرشاد الديني.

لكن المثير في هذا المقترح هو طرحه لمفهوم المراقبة الشرعية للعلماء على عمل مؤسسة الزكاة الاقتصادية بالطريقة المعمول بها في النظرية والممارسة الاقتصادية المستندة لأحكام الشريعة الإسلامية كما هي سائدة في عدة دول إسلامية كالكويت والسودان.

وقد عُوض الذود التاريخي عن مكانة العلماء في الخطاب الاستقلالي ووظيفتهم الدينية، بالرهان على “دور النخبة” في التحصين العقَدي والفكري للشعب المغربي في محور “الهُوية وسؤال الحداثة والقيم في ظل عالم متغير” ضمن ورقة التوجيهات العامة لأشغال اللجان الفرعية المنبثقة عن اللجنة التحضيرية الوطنية للمؤتمر العام السادس عشر لحزب الاستقلال سنة 2012[8] فقد ورد في هذه الوثيقة الحزبية -وبلغة عائمة وفضفاضة تعكس تبني الحزب لمرجعية فكرية وسياسية  تصعب على التصنيف الإيديولوجي الصارم، لجمعها في مستوى واحد وبشكل توليفي وهجين أحيانا للمرجعية الدينية الإسلامية، والفكر الحداثي العقلاني والتقاليد الوطنية المغربية، -دونما أي انحياز ابستيمولوجي أوتراتبية فكرية واضحة – تأكيد الحزب على “الانتصار للعقل والاجتهاد، والتحاور لذلك مع باقي النماذج الفكرية والمنظومات الثقافية، والانفتاح على إيجابيات الحداثة في مجالات العلم والتحديث التقني، وعلى دور النخبة التنويري في المجتمع، وقيادتها لقطار التطور مع تصديها للاستلاب الفكري والعقائدي”.[9]

فحزب الاستقلال بحسه البراغماتي فضل في هذه الوثيقة اعتبار علماء الدين جزء من النخبة الثقافية المغربية التي تقع على عاتقها وظيفة تنوير وتثقيف المجتمع، وتحصينه دينيا وفكريا في ظل المرجعية المتعددة للهوية والإنسية المغربية، وبذلك أمكن أن نعتبر الحزب في تعاطيه الفكري والسياسي مع ملف العلماء ومع المسألة الدينية عموما، نموذجا سياسيا في انفصال مرجعيته الإيديولوجية المنافحة عن العلماء ولدورهم الديني والثقافي في المجتمع المغربي، عن ممارسته السياسية المنحازة إلى الإستقطاب التنظيمي والرهان المجتمعي على نخب الأعيان والتقنوقراط والنخب الجامعية الحديثة، مما يجعل القناعات “الإسلامية” الاستقلالية المبدئية بعيدة كل البعد عن التصريف والأجرأة في النسق السياسي.


[1] – ولد زعيم حزب الاستقلال علال الفاسي سنة 1910 وتوفي سنة 1974برومانيا أثناء أداء لمهمة سياسية ودبلوماسية رسمية، ونال شهادة العالمية من القرويين سنة 1932.وخلف علال الفاسي بصفته عالما بارزا من علماء المغرب تراثا فكريا إسلاميا وازنا نذكر منه:

  • المدخل لعلوم القرآن والتفسير، منشورات مؤسسة علال الفاسي، 1988.
  • مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها. دار الغرب الإسلامي، بيروت الطبعة الخامسة، 1993.
  • دفاعا عن الشريعة. منشورات مؤسسة علال الفاسي الطبعة الثالثة، 1995.

[2] – عبد الكريم غلاب الفكر التقدمي في الإيديولوجية التعادلية، مطبعة الرسالة، الرباط. 1979 ص 60.

[3] – حزب الاستقلال المقرر المذهبي للمؤتمر الثاني عشر 19- 20-  4 ماي 1989 نقلا عن رشيد مجبار، العلاقة بين الديني والسياسي في المغرب  المعاصر، قراءة في المرجعيات رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، تخصص الحياة السياسية والدستورية. كلية الحقوق بوجدة . 2000 – 2001 ص  63.

[4] – توج المسار الانتخابي والحكومي لحزب الاستقلال، بقيادته للتجربة الحكومية بقيادة أمينه العام السابق عباس الفاسي الذي عين وزيرا أولا على إثر الانتخابات التشريعية شتنبر 2007، ليستمر في مسؤوليته الحكومية إلى غاية نونبر 2011 تاريخ إجراء الانتخابات التشريعية المبكرة، التي دعا إليها النظام السياسي المغربي لاحتواء الحراك السياسي لحركة 20 فبراير، وما ترتب عن ذلك من تحولات دستورية وسياسية أفرزت ميلاد دستور فاتح يوليوز ،2011 وترأس حزب العدالة والتنمية بقيادة أمينه العام عبدالإله بن كيران للحكومة.

[5] – نص برنامج حزب الاستقلال المغربي للانتخابات 2007 في الموقع الكتروني www.onislam.net

على الرابط onislam.net / arabic / neus analysis / doument –data / legislations  

[6] – انعقد المؤتمر العام الخامس عشر للحزب بالرباط أيام 9 – 10 – 11 يناير 2009 تحت شعار: “جميعا من أجل مغرب الإصلاحات”

[7] – مشروع وثيقة الشؤون الاقتصادية، المؤتمر العام الخامس عشر. الرباط، 9 -10- 11 يناير 2009 مطبعة الرسالة، يناير 2009، ص  40.

[8] – المنعقد أيام 29 و 30 يونيو وفاتح يوليوز 2012 بالرباط تحت شعار “التشبث بالثوابت والتعبئة من أجل التدبير السليم للشأن العام”.

[9] – التوجهات العامة لأشغال اللجان الفرعية المنبثقة عن اللجنة التحضيرية الوطنية، منشورات المركز العام لحزب الاستقلال، مطبعة الرسالة 2012 ص ص  7-8.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق