المقالات

جيل z وسؤال ترميم الثقة: (سلمان بونعمان)

تطرحُ موجاتُ احتجاجِ جيلِ Z سؤالَ الثقة بوصفها شرطًا بنيويًا للاندماج والاستقرار والإصلاح، وتنقلُ مركزَ النقاش من المطالب الاجتماعية إلى ضرورة تحديد معايير الإنصاف الإجرائي، وبلورة سياسات الاعتراف، وتحسين جودة الحكامة، ومكافحة الفساد البنيوي. وضمن هذا الأفق، تَغدو الثقةُ محورَ التفسير: فكلما ازداد شعورُ الشباب بالإقصاء وضعفِ الإنصات لمطالبهم، ارتفعَ تراكم الغضب وتواترُ الاحتجاج؛ وعندما تُفتح قنواتٌ عادلة وشفافة للاستجابة، تميل هذه الطاقة الجيلية إلى التحوّل نحو مشاركةٍ مؤسسية قابلة للتتبّع.

هنا تكتسب مقولةُ فرنسيس فوكوياما وظيفةً تفسيرية مباشرة:”صلاح أحوال أي أمة والحفاظ على قدراتها التنافسية في السوق الاقتصادي يبقيان مشروطين بتوافر سمةٍ ثقافيةٍ وحيدةٍ وراسخة، ألا وهي الثقة ومدى انتشارها وتأصّلها في المجتمع”.يُضيء هذا الطرحُ بُعدين متلازمين: بعدٌ سوسيولوجي يُبيّن أن الثقة توسّع دائرة التعاون من الاعتماد على الأسرة والقبيلة والمعارف والزبونية إلى تعاونٍ عامّ بين أفراد المجتمع جميعًا، قائمٍ على قواعد شفافة يمكن للجميع الاطمئنان إليها؛ وبعدٌ مؤسسي–اقتصادي يربطها بكفاءة التنسيق، وانخفاض كلفة المعاملات، واتساع آفاق الاستثمار والابتكار؛ ونضيف إلى ذلك بعدا سياسيا سالبا فعندما يتغلب-بتعبير الجابري-منطق الغنيمة (تقاسم الريع) ومنطق القبيلة (روابط الولاء)، ترتفعُ احتمالاتُ تأزّم مسارات إصلاح السياسة؛ إذ يُعاد توظيفُ القواعد والمؤسسات لخدمة شبكات الولاء والزبونية، وتضعف القدرةُ على ترسيخ معايير عمومية قابلة للمساءلة.

ينعكس ذلك في أنماط صنع القرار وسنّ القوانين حين تُساق لخدمة ترتيباتٍ نخبوية خاصة ومركّبات نفوذ، على حساب بناء المصلحة العامة المشتركة وتعزيز أثر السياسات العمومية في حياة الناس اليومية.ويرتبط الوعي بالحقوق لدى جيل Z بمنطق الثقة عبر آلية واضحة: الوعي الجديد يرفع التوقعات من الدولة في التعليم والصحة والعدالة والشفافية، ويحوّل تقييم المؤسسات والسياسات إلى فحصٍ لإجراءاتها لا لخطابها.

عندما تتكرّر خبرات المصداقية والتواصل وفتح القنوات مع هذه الأجيال، ينمو رصيد الثقة المؤسسية ويتجه الانخراط نحو المشاركة؛ وعندما تتكرر خبرات التجاهل أو الإقصاء أو التمييز الإجرائي، يتآكل هذا الرصيد ويزداد اللجوء إلى الاحتجاج في الفضاء العام.

هكذا يعمل وعي الحقوق باعتباره حلقة وصل بين الاعتراف والإنصاف الإجرائي والثقة السياسية بنوعيها (ثقة الأداء وثقة المنظومة).وعليه، يصبح ترميمُ الثقة -إنصافًا إجرائيًا، ووساطةً شبابية مركبة، وعدالةً مجالية قابلة للقياس- مدخلًا عمليًا لتحويل دينامية التعبئات السريعة إلى مشاركةٍ مؤسسية مستدامة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق