المقالات

مفهوم الحرية في الإسلام – تأملات في التأصيل والتنزيل(فيصل الأمين البقالي)_2_

في ما يتعلق بالوجه التأصيلي؛

فمعلوم أن التأصيل في الاصطلاح الرجوع بالأمر إلى أصله في الفكر تمامًا كما إن التأثيل الرجوع به إلى أصله في اللغة. والمفهومات بما لها من حمولة فلسفية وقيمية لا بد محيلة على أصولها، واشية بهويتها الفكرية في حركيتها التي هي من صفاتها وخصائصها. ومن الطبيعي أيضًا أن تكون لها حدودٌ دنيا وحدود عليا في التأصيل تمامًا كما أن لها حدودًا دنيا وأخرى عليا في التأثيل، وبعد ذلك أيضًا عندما يُنظَر فيها عند التنزيل.

فأما حدودها الدنيا فهي على العموم لا تطرح إشكالات تذكر، لأنها لا تتبرج بالتمام ولا تظهر، إلا بما يتواضع عليه الناس جميعًا وترضاه قابلياتهم دونما حاجة إلى ذكرٍ لتأصيل، ولا احتراز عند تنزيل. وهذا أمر شائع موجود عند الأمم جميعها وفي الثقافات جميعها. وهو ما عشناه ونعيشه حتى مع هذا الذي نعمل على مقاربته، فقد رأينا كيف يتم تقييده والتحرز له وتحديده في سياقات سياسية إقليمية ودولية معينة ومع فئات اجتماعية أو دينية أو إثنية معينة.

ومعلوم أيضا أن مفهوم (الحرية) مُحيلٌ – من حيث تشكله وتراكبُ عناصره – على سياقات تشكله الفكرية والقيمية. لذا فإننا إذ نسعى إلى تلمس معالمه في إطار الإسلام كما نفهمه، وباعتبار ما يكتنفه من سياقات ثقافية وحضارية، فإنه يلزمنا الوعي بأنه يحيلنا على مناحٍ فلسفية وأخلاقية خاصة تتلاقح ومخرجات الفكر الإنساني المختلفة، وتؤثر فيها، وتتأثر بها.

إننا نبدأ بالوجل من المفهومات الكبرى التي لا خلاف حولها عمومًا عندما تشاكس قناعاتنا وتزاحمها، سواء كانت هذه القناعات ذات طبيعة دينية أم إيديولوجية، أو تعلق الأمر فيها بأعرافنا الاجتماعية أو ما استقر عليه الأمر عندنا سياسيًّا وثقافيًّا. ولكن إذا كان مفهوم ما أصيلًا في قوم ولو على مستوى بؤره الدّلالية الأساس مع انطراحه أمامهم مشكلًا يملأ دنياهم ويشغلهم، فلا شك في أن ثمة جزء منه أو تشكُّلٌ من تشكلاته يقفهم موقف التعارض أو التناقض معه، فيجرهم جرا إلى (المفاوضة) معه أو عليه! لا بدَّ أن هذا الناتئ من هذا الأصيل شَكْلٌ صِيرَ إليه ولم يُقْصَد، أو انزياحٌ زلَّت به القدم على طريق القصد وما أَمَّمت، أي أن ثمة قابلياتٌ في المفهوم الـمـبَـيَّـئ كامنةٌ لم تواكبها الاستقبالية الملائمة في المجالين المعرفي والثقافي الـمـبَـيِّـئين له. وغايَةُ القول في هذا الباب أننا نحتاج في تأصيلنا لمفهوم “الحرية” ومعالجتنا لمشكلته إلى أن نَصِلَ إليهِ لا أن ننطلق منه، ما دمنا قد وعينا ما قررناه آنفا على مستوى المحطة التأثيلية. وعليه فقد لَزِمَنا أن نَصيرَ إلى تَلَمُّس أبعاد هذا المعنى/المفهوم، وتحديد أقانيمه الكبرى وعناصره الرئيسة لرسم صورة مثلى وفضلى عنه.

وإنَّ للحرية ملمحًا وجوديًّا من حيث هي معنى مجرد ومثال مطلق، أو قل من حيث هي (قيمة) يراود العقلَ سؤلُ تصورها وتمثُّلها. كما أنَّ لها ملمحًا ذاتيًّا من حيث هي مطلب للأفراد في سعيهم إلى التحصل عليه والتحقق به أو قل من حيث هي (خُلُق). وإنَّ لها ملمحًا اجتماعيًّا وسياسيًّا من حيث هي عنصر في قوام النظام الاجتماعي والسياسي للمجتمعات الذي تتحصل مصالُحهم الماديةُ والمعنويةُ في إطاره وتصان، أي من حيث هي (مصلحة). فالحرية بهذا الاعتبار (قيمة) تُحَقُّ، و(خلق) يتحقق به، و(مصلحة) يتم تحقيقها.

أولًا: في أن الحرية (قيمة)

إن القيمة استبطان لمعنى فاضل في ذاته، متى ما أضيف إليه غيره ناله من الفضل بقدر إضافته. وقولنا (الحرية قيمة) هو إسباغ للفضل عليها بما يجعلها فاضلة في ذاتها متعدية به إلى ما ومن أضيف إليها. ولا تعرف القيمة إلا بالحاجة إليها، إذ لا قيمة لما لا حاجة إليه. وإذا كانت القيمة الحقة هي التي تثبت الحاجة إليها بوجود من يحتاج إليها، فإنها لا تضاف إلا لمستحق لها. فمن لا أهلية له فلا حق له فيها. والحرية في بعدها الأنطولوجي لا تفتأ تنطرح بوصفها حاجة للناس أفرادًا ومجتمعات يجب إحقاقها، وبوصفها شأوًا يجب استحقاقه. فهي حقٌّ لهم من جهة وحق عليهم من جهة أخرى.

ومن الآيات القرآنية المؤسسة لهذا المعنى في التصور الإسلامي والفياضة بالدلالة على معنى الحرية بوصفها قيمة يتأسس عليها الحق فيها كما يتأسس عليها الحق بها، قوله سبحانه: 

« .. وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم..»[14]

ولعلي أورد تأملًا نفيسًا للفقيه المقاصدي د.أحمد الرسوني في هذه الآية، إذ يقول:

« .. رجعتُ إلى البدء فوجدتُ أن أوّلَ تعليمٍ عَلَّمَهُ الله تعالى لآدم عليه السلام هو الكلام والتعبير […] ليقول كل ما يريد ويعبر عن كل ما يريد وليسمي الأشياء كلها بمسمياتها […] أما الذين “يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم”[15] أو الذين “يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك”[16] فإنما هم منافقون، أي زائفون مزيِّفون..» إلى أن يقول: «.. وإذا ثبت واتضح أن خاصية البيان والتعبير هي صفة فطرية خِلقية في الإنسان، فمعناه أنها تفوقُ درجة “الحقوق المكتسبة” وترتقي إلى درجة “الحقوق الطبيعية” أو لنقل إنها ليست فقط حقا من حقوق الإنسان بل هي قبل ذلك صفة من صفات الإنسان. وفرق كبير بين أن يجرَّد الإنسان -أو ينتقص- من بعض حقوقه، وأن يجرّد -أو ينتقص- من بعض صفاته الذاتية. ففي هذه الحالة الثانية يُصابُ الإنسان في صميم إنسانيته وليس فقط في بعض حقوقه..»[17]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق