غزة الجريحة وروما الجديدة ما أشبه الليلة بالبارحة ! (يونس العلوي المدغري)
يتأسف المؤرخ ألبرتيني[1] والعديد من المؤرخين الأوروبيين على انتكاسة الوجود الروماني في شمال إفريقيا، وكارثة انمحائه السريع في هذه المستعمرة الرومانية، ويستغربون هذه الواقعة ويستشنعونها؛ كيف حصل ذلك رغم الرومنة القوية! ورغم دخول جموع كثيرة من الأمازيغ في الدين النصراني وإخلاصهم له!؟ وبخاصة مع الحركة الكنسية الدوناتية (Donatism) التي أسسها القديس الأمازيغي دوناتوس … ويومئ أمثال جوليان وعدد من المؤرخين إلى العقلية الاستعمارية الامبريالية التي اتسمت بها سياسة روما وخلفائها في الشمال الإفريقي؛ ينتقدونها لأنها اعتبرت هذه المنطقة حديقة لجلب القمح والزيتون، وبالغت في التهميش والعنصرية مع السكان، وأرهقت الناس بضرائبها، وبطشها، وضروب من الظلم والاستبداد والاضطهاد الديني والسياسي والاقتصادي…
فلما أقبل الفاتحون المسلمون في القرن السابع الميلادي قاومهم سكان الشمال الأفريقي كما قاوموا كل غريب يحل ببلادهم. لكن لما لمسوا صدق الإسلام، ولاحظوا التعامل المتميز للفاتحين الجدد، أسلموا وتركوا النصرانية الدوناتية والرومنة والوثنية وغيرها… إلى الأبد. فلذلك يكثر عند المؤرخين الغربيين التندم والأسف، ويتمنون لو أن روما وخلفاءها تصرفت بطريقة لائقة لتحفظ مستعمراتها تحت ظلال إمبراطوريتها العظيمة، ويتمنون لو صبر الأمازيغ على روما والرومنة وخلفائها ليكونوا أكثر حضارة وتمدنا!..
ما أشبه الليلة بالبارحة! ما يحصل اليوم في غزة هو مما كسبت يدُ روما الجديدة؛ روما الثاوية اليوم في واشنطن (والغرب بأسره)،… لقد كانت روما القديمة تؤمن بالنصرانية، لكنها لم تخلص لنصرانيتها التي تدعو للعدل والمساواة والرحمة والإحسان؛ فبطشت بأهالي شمال إفريقيا واضطهدتهم ولم تشفع لهم نصرانيتهم… أما روما الجديدة فقد آمنت بالديمقراطية والعدالة والمساواة وحقوق الانسان والقوانين الدولية…الخ لكنها ساهمت في إبادة غزة وتجويعها، ووراءها الغرب بأجمعه، ولم تشفع لأهل غزة إنسانيتهم! ولا تشبتهم بالقانون الدولي الذي تؤمن به روما الجديدة! القانون الذي ينص على حقوق غزة وفلسطين في الحياة الكريمة، ورفض الاحتلال الذي جاء به الغرب.
لم تعد روما الجديدة مخلصة لمبادئها وشعاراتها، لقد داستها بعنف منقطع النظير في غزة … فلا تعجبْ من غضب الناس عليها، وتنديدهم بها وبأداتها في الشرق الأوسط… لقد ثار أهالي شمال إفريقيا وحدهم ضد روما القديمة وخلفائها، وكفروا بها وبدينها – كما يخبرنا المؤرخون الغربيون بأسف… لكن الغاضبين من روما الجديدة وأداتها اليوم ليسوا أهلَ غزة وحدهم، بل أهل الأرض قاطبة، وأهل السماء أيضا…
الغاضبون اليوم من روما الجديدة يخرجون بعشرات الملايين في كل بقاع الأرض شرقا وغربا، شمالا وجنوبا… آهات الأمهات الغزيات الثكالى والجوعى تصل لكل آذان نساء العالم، فيخرجن ويغضبن لهن ويكفرن بروما الجديدة وأداتها، وصرخات الأطفال الذين يتضورون جوعا في غزة تصل إلى آذان ضمائر سكان الأرض فيخرجون ويغضبون ويكفرون … صور أشلاء الأطفال والشيوخ والعجائز والرجال والنساء الممزقة في طرقات غزة تصدم شباب العالم وشيوخه، وهم أمام شاشاتهم وهواتفهم… فيثورون ويغضبون، وتَحارُ عقولهم فيخرجون بالملايين صارخين في شوارع العالم لا؛ لا لإبادة غزة! كفى جنونا! كفى همجية! كفى نفاقا وازدواجية في المعايير يا روما الجديدة! كفى كفرا بالمبادئ الإنسانية! كفى سَحْقا للقوانين والأعراف والأخلاق!…
ويتابع المفكرون والمشاهير من عقلاء الغرب محرقة غزة وأهوالها فيدقون ناقوس الخطر ويصرخون يا روما يا غرب يا ساسة توقفوا عن دعم الإبادة! إنكم تحفرون قبر حضارتنا وتهدمون ما شيده زعماؤنا عبر أجيال عديدة! وتخربون مدنيَّتنا التي أبدعها نوابغنا وكبراؤنا!!… إلى أين تسيرون بنا؟ أإلى مذبحة الإنسانية؟ أم إلى هاوية الحضارة الغربية وفنائها؟ … صرخ الفيلسوف (إدغار موران) Edgar Morin في فرنسا، وصرخ المغني بوبي فيلان في مِهرجان غلاستونبري وندد بأعلى صوته وندد معه الجمهور بإبادة غزة… واعترف المؤرخ “لي مردخاي” وأمثاله بالإبادة الجماعية في غزة… وصرخت المنظمات والهيئات بكل ما تملك من قوة.
بل يصرخ اليوم ملوك ورؤساء الغرب بالعار والشنار؛ كملك بلجيكا، ورئيس وزراء إسبانيا، وبريطانيا، بل ومستشار ألمانيا أيضا… بل اعترف بذلك كبير روما الجديدة نفسه في مطلع هذا الشهر؛ وقال ما يحدث في غزة “كارثة وعار“. لكن الغرابة والعجب في قوله أنه “لا يعرف إلى أين ستؤول الأمور في غزة“. !!! كأنه لا يعرف ولا يملك ذلك!!!؟ وكأنهم لا يعرفون ولا يملكون إيقاف محرقة الإبادة!!! التي غضوا الطرف عن شراراتها الأولى، طمعا في أن تنتهي سريعا، لكنها لم تنتهِ! وواصلت كرة الثلج، بل كرة النار، تدحرجها من غزة إلى العالم.
ولم يُجدِ صراخ “الدوق Dux المصري” من حرِّ كرة النار ببابه، ولا عويل الدوقات المجاورين له… -ولنترك الكلام عن بلدان الجنوب فهي تغلي كالبركان، وننشد في آخر المقال نشيد طرفة الشاعر الذي خذله قومه.
أعود لأقول: الحق أن كل هؤلاء الكبراء يعرفون كيف يوقفون محرقة غزة وأداتها، ولكنهم لا يريدون ذلك. ربما لأن الضغط عليهم كبير جدا، أو لأنهم لم يتصوروا بتاتا أن يستفحل الأمر إلى هذه الدرجة، التي تطلب إليهم حسما باهظ الثمن.
لكن الأبهظ ثمنا هو ما تنبأ به العديد من المحللين والاستراتيجيين والفلاسفة والمفكرين الغربيين؛ كعالم الاجتماع إيمانويل تود … بأن تحلل الحضارة يبدا من الروح والأخلاق، وقد طفح انفجار غزة بكل ويلات الحضارة المعاصرة التي تتربع على عرشها روما الجديدة، والتي تكشف عن نقص فظيع في الروح والأخلاق. فقد تكون هذه الويلات التي طفحت في غزة أمام أعين العالم، بمثابة “ضربة المروحة سنة1830” أو “اغتيال أمير النمسا سنة 1914” بل أفظع من ذلك بكثير. لأن الأمر لا يتعلق بحرب تقليدية، بل بانهيار حضاري، وزلزال تتصدع معه البُنى في جميع الأصقاع. وقد لا يحتاج الأمر إلى أكثر مما حصل في غزة ليبدأ الانهيار عيانا… هذا مذهب الكثير من المفكرين المُنذرين بالشر المبين، وليسوا بالضرورة من المتشائمين.
ولنتفاءل قليلا مع أرلوند توينبي الذي يلمح -مع غيره- إلى أن امتزاج الحضارات والثقافات -كما هو الحال في عصرنا- قد يبطئ الانهيار الحضاري الغربي، وأن الأمر قد يأخذ وقتا طويلا … هذه بارقة أمل للغرب، وفرصة ينبغي اهتبالها. فهناك مكونات كثيرة ومتنوعة في قلب الحضارة الغربية، لكنها من أصول غير غربية؛ كالمكون الإسلامي، والمكون الآسيوي، والأفريقي، والهندي وغيرهم. هذا من شأنه أن يغني الحضارة الغربية، ويبث فيها القوة والفتوة والحياة، ويدعمها بالروح والحيوية والتجدد…
فنحن المسلمين مثلا بعشرات الملايين في الغرب جُذِبنا إليه، وأصبحنا مواطنين غربيين، إعجابا بخلال غربية مهمة؛ كالنظام والعقلانية والجدية والميل إلى المساواة والامتناع من الظلم…الخ وقديما قال القائد المسلم الصحابي ابن العاص في القرن السابع -كما في صحيح مسلم وتاريخ البخاري- عندما «قال المستورد القرشي، عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تقوم الساعة والروم أكثر الناس”. فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك». وكلها خصال أصيلة، ينبغي تقويتها لتشكل فرصة للإنقاذ ممكنة -حسب توينبي- للحضارة الغربية، بالتعايش والتعاون. وفرصة لإصلاح ما أفسدته أداةُ روما الجديدة في الشرق الأوسط؛ وظهر بفظاعة في محرقة غزة ومجاعة غزة. إن الأداة لا قلب لها، ولن يكون لها أبدا، لكن روما لها قلب ولها عقل؛ بذلك أنبأنا الرب في الوحي. أقول ذلك رجاءً وأملاً في إصلاح الواقع والمستقبل.
أما أهل غزة تجاه إخوانهم العرب والمسلمين فحُقَّ لهم أن ينشدوا مع طرفة بن العبد الذي خذله قومه:
أَسلَمَني قَومي وَلَم يَغضَبوا *** لِسَوأَةٍ حَلَّت بِهِم فادِحَةْ
كُلُّ خَليلٍ كُنتُ خالَلـتُهُ *** لا تَرَكَ اللهُ لَهُ واضِــــــحَةْ
كُلُّهُمُ أَروَغُ مِن ثَعلَبٍ *** ما أَشبَهَ اللَيلَةَ بِالبارِحَةْ
[1] – E. Albertini, L’Afrique romaine,p.61, Alger, 1937.