تقديم كتاب: في المنهج: منطق الكشف العلمي والفلسفي (إدريس مقبول)
يشير أوتو نيورات وهو واحد من رواد حلقة فيينا التي ضمت باحثين في الرياضيات والفيزياء وعلم الاجتماع والفلسفة وغيرها، إلى أن هناك مساع لتقديم عقلانية زائفة تعمل على الفصل الحاد بين العقل الفلسفي والعقل العلمي كما لو كانا متخاصمين، ومما لاشك فيه أن امتلاك العلم وامتلاك الفلسفة يرجع لأمر واحد تدل عليه البدايات كما تدل عليه المسارات المتعرجة، وإن كانت أنساقهما مختلفة كما يبينه تاريخ المعرفة وتاريخ الأفكار، ذلك أن الطور الذي بلغته العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والعلوم البحتة، وهو طور يشي بمكاسب كثيرة كانت وراء تقدم الغرب وامتلاكه العلم الحديث، تؤكد من وجه آخر أن مسيرة تقدم العلم كانت باستمرار بالموازاة مع تقدم أسئلة الفلسفة، وقد سعى الغرب حثيثا في تنمية مسارات العلم ومراجعته وتصحيح أخطائه على ضوء أسئلة الفلسفة ومآزق العلم الذاتية والموضوعية.

يحدثنا كتاب (في المنهج: منطق الكشف العلمي والفلسفي) للأستاذ الباحث والفيلسوف المغربي عبد المجيد باعكريم خريج جامعة السوربون عن حدود الوصل والفصل بين المنطقين الفلسفي والعلمي، أو لنقل بين (الصناعتين)، من خلال التأكيد على وثاقة العلاقة بينهما عبر تاريخهما الطويل، فقد كان العلم على الدوام يفرز إشكالات فلسفية كما وقع مع الأعداد اللاعقلية أو (الأعداد الصماء) في أحضان المدرسة الفيثاغورية في القرن السادس قبل الميلاد، والتي كانت مشكلة فلسفية وما كان ليكون حلها إلا فلسفيا، والنظرية الفلكية الكوبرنيكية، والتي كانت وراء قيام الفلسفة الحديثة، وكانت فلسفة ديكارت أول حل لبعض مشكلاتها، كما كانت نظرية الإبصار الهيثمية وراء تبلور نظرية في المعرفة بديلة عن النظرية المشائية، كما أن نظرية الطاقة(من خلال مبدأي الحفظ والتحويل) تشكل مثالا آخر على أن أسئلة فلسفية ميتافيزيقية أحدثت انقلابا في العلم والتكنولوجيا وفي حياة الإنسان وعلاقته بالطبيعة، فأصبح اللامادي أكثر أهمية في تفسير حركة المادي.
يُذكِّرنا عمل باعكريم في رِهانه برِهان أبي إسحاق الكندي الذي لقب بفيلسوف العرب في أواخر القرن الثاني ومنتصف الثالث للهجرة، والذي جعل من الاشتغال بالعلوم وبخاصة الرياضيات مدخلا للتفلسف، وقد ذهب بعيدا فاشترط تعلم الرياضيات قبل الترييض الفلسفي.

يخبرنا الأستاذ باعكريم بخبرته البحثية والتدريسية الطويلة لفلسفة العلم بأن المنطق الذي يحكم صناعة العلم وصناعة الفلسفة واحد، كما أن العقل الذي ينتجهما واحد، وكيفما كان الموضوع في العلم كما في الفلسفة؛ رياضيا أو ميتافيزقيا أو سياسيا أو أخلاقيا فإن المنطق واحد. فالعقل حسب الأستاذ باعكريم “يشتغل بالمنطق ذاته في كل المجالات وبخصوص كل الموضوعات”، وبالمناسبة فما يقع في العلم يلزم أن نجد له مقابلا في الفلسفة، والعكس صحيح. وعلى نحو يكاد يكون متوازيا محققا ما يسميه الأستاذ باعكريم بمنطق التوحيد والتطابق في كل أركان النسق النظري، بحيث تترجم قوانينه، وفي الآن نفسه تعكس بنيته. مثال ذلك النظرية البنيوية التي نجد صداها في كافة أصناف المعرفة من علوم المادة إلى علوم الحياة إلى علوم الإنسان.
يُظهر لنا الجهد الفلسفي والابستمولوجي المميَّز للأستاذ باعكريم أن التقدم في الفلسفة رهين بالتقدم في العلم أيضا أو ما يسميه رهان “غرس الفكر العقلاني في تربتنا”، وهو ينطلق في كتابه ذي الطابع الفلسفي والتحليلي من هواجس بيداغوجية (وهو المعلم/الفيلسوف الذي درَّس الفلسفة لسنين بالمدرسة العليا للأساتذة) تتعلق بسؤال المدرسة وبناء العقل لدى الناشئة ثم لدى الجمهور لاستئناف الدور الحضاري المطلوب في عالم تتزاحم فيه القوى التي تملك ناصية المعرفة بالدرجة الأولى.
يؤكد لنا الأستاذ باعكريم أن حتمية الإلمام بالمعارف الحديثة لا تنفصل عن ضرورة دراستها دراسة تحليلية نقدية، وهذا الضرب من الدراسة يفضي إلى استيعاب المعرفة استيعابا نقديا، وفهم أبعادها الفلسفية، وهو شرط ضروري لتأسيس أرضية للنهضة والإبداع الذاتي، والمساهمة في إنتاج المعرفة.
ويَعتبر الأستاذ باعكريم باعتباره أحد أمهر أساتذة الفلسفة الذين يميزهم الشغف بالمعرفة مع دقة النظر وبراعة التوليد وإحكام الاستنتاج والبرهان والقدرة على التفسير والشرح وحِدَّة الوعي والانتصار للحداثة ولكونية قيمها(الحداثة هنا بما هي عقلنة للزمان والمكان والجهد والعمل) دون تنكر للتراث التنويري، ودون أن يكتفي بمجرد النقل والاجترار، فمُعلم الفلسفة لا يليق به أن يضع نفسه موضع الحاكي فيقصر وظيفته على حكاية أقوال الفلاسفة دون عناية بتدبرها وتفكيكها ومناقشتها بل وتجاوزها، ولهذا نجده يقدم لدراسته بنقد للراهن يسلط فيه الضوء على تقلص دائرة (النخبة) وانكماشها واتساع دائرة (العامة) مع ما يستتبع ذلك من حفر في مقدمات ما يسميه بالفجوات أو الفراغات النظرية التي تحتاج لاشتغال، ويتعلق الأمر بإشكالية الفلسفة والدين، وذلك بملء الفراغ النظري الذي يغطي الفترة الفاصلة بين القرن الرابع عشر والعصر الحديث، ثم سد الفراغ النظري الثاني عبر تشخيص الشروط النظرية لظهور الفكر الحديث، في أفق تجسير الهوة بين القرن السابع عشر والحقبة المعاصرة.
كما يحرص الأستاذ باعكريم بحسه النقدي رغم مرافعته على الوصال بين نسقي الفلسفة والعلم على التمييز بين الفكر العقلاني والفكر الفلسفي، فالفلسفة صنعة أفرزتها الرياضيات الفيثاغورية، ففيثاغور نحت لفظة فلسفة ليفرقها عن الحكمة، كغاية ومطلب يتوج المسار الطويل لطالبها، وهو ما حذا به إلى تغيير صفته من حكيم إلى محب للحكمة. كما ميز الأستاذ باعكريم أيضا بين إشكالية ظهور الفلسفة والظهور الإشكالي للفلسفة.
كتاب الأستاذ باعكريم على غرار كتاب وحدة الفكرين الديني والفلسفي للفيلسوف التونسي أبي يعرب المرزوقي الذي عالج فيه نفس القضية(قضية إصلاح العقل) من زاوية مختلفة، فهو كما يراهن على تقديم ملخص واف بالعلاقة الظاهرة والمستترة بين النسقين، وعلى أهمية أن يُعاد تشييد العقل في المدرسة بطريق التوحيد بين العلوم والفلسفة في أبعادها النظرية والقيمية والعملية، يراهن على أنه “لا يمكن السيادة على الأفكار وتسخيرها لأهدافنا، ولا التوفق في تغيير سيرورتها واتجاهها، إلا بالإمساك بناصية قوانينها، شأنها شأن المادة تماما”.. فالكتاب وإن كان في فلسفة العلم لكنه يُرشد ببعده التربوي إلى طريق حيازة موقع السيادة في عالم لا يَرحم الأذيال أو المستهترين المستخفين بعالَم الأفكار.