القصيدة الزجلية المغربية المعاصرة بين دينامية التجديد وممارسة النقد على ضوء ما بعد السيميائيات(محمد أزلماط)
يشكل كتابنا( القصيدة الزجلية المغربية المعاصرة بين دينامية التجديد وممارسة النقد على ضوء ما بعد السيميائيات)؛ دراسة أكاديمية متعمقة لقصيدة الزجل المغربية المعاصرة، حيث ينطلق من رؤية نقدية شاملة تتجاوز التوصيف التقليدي لتقدم فهمًا دقيقًا لدينامياتها الداخلية وتفاعلها مع السياق الثقافي والاجتماعي. ويؤكد في مقدمته أن قصيدة الزجل المعاصرة ليست مجرد إنتاج شعري تقليدي، بل هي ممارسة إبداعية تتسم بالحيوية والمرونة، قادرة على استيعاب التحولات المجتمعية والثقافية، مما يجعلها مجالًا خصبًا للتجديد الفني وممارسة النقد المعاصر.
وينبني أيضا على تصور يجعل من الزجل الشعري المغربي المعاصر خطابًا ثقافيا شعريا إبداعيًا متحولًا، تجاوز حدوده التقليدية المرتبطة بالفرجة الشفوية أو الاستعمال الغنائي، ليغدو ممارسة فنية وفكرية تنفتح على أسئلة الوجود والهوية والمعاصرة. فهو لم يعد مجرد أداة للتعبير الشعبي، وإنما أصبح وسيطًا أنطولوجيًا وجماليًا وفلسفيًا، تتقاطع فيه الذات الجماعية مع الفردية، وتتفاعل فيه اللغة اليومية (الدارجة) مع طموحات الفكر والنقد. من هنا، لا يُقرأ الزجل فقط من زاوية محليته أو من داخل بنيته الإيقاعية واللغوية، بل يتطلب مقاربة مركبة تستحضر التفاعل بين النص وسياقه الاجتماعي والثقافي والسياسي.

إن هذه الرؤية تنبني على مبادئ أساسية قوامها الانفتاح على مختلف الحقول المعرفية، والتعددية في مقاربات القراءة، والتكامل بين التراث والحداثة وما بعدها، فضلاً عن الوعي بالجدلية التي تؤطر العلاقة بين النص وفاعليه: المبدع والمتلقي والناقد. لذلك فإن الزجل، كما يتبدى في تجاربه المعاصرة، هو نص مفتوح ينهض على تعددية الدلالات، ويستدعي قراءة عابرة للمناهج، قادرة على استكشاف بنياته الداخلية واستجلاء أصداء الواقع الذي ينهل منه ويتفاعل معه.
وتتجاوز المقاربات ما بعد السيميائية ثنائية الدال والمدلول لتتعامل مع العلامة كشبكة متداخلة تنبني على مستويات حسية وإدراكية وثقافية ورقمية، فتتحول الكلمة اليومية البسيطة إلى علامة شعرية متحركة تفيض بدلالات فلسفية ووجودية. وتبرز أهمية البعد الصوتي والإيقاعي في توجيه التلقي على مستويات معرفية وعصبية، حيث يتحول الإيقاع إلى وسيط إدراكي يعيد تشكيل تجربة المتلقي ويعمّق انخراطه الوجداني في النص. ومن هنا يصبح الزجل خطابًا مفتوحًا على التأمل والبحث عن معنى وجودي جديد.
ويستخلص الكتاب إلى النتائج التالية بعد تطبيق ما بعد السيميائيات::
- تحول قصيدة الزجل المغربية المعاصرة ومكانتها:
يشير البحث إلى أن قصيدة الزجل لم تعد مجرد امتداد للتراث الشفوي الشعبي، بل أصبحت جنسًا أدبيًا قائمًا بذاته، يملك خصوصية جمالية وفكرية تمكنه من الموازاة مع أشكال التعبير الشعري الحديثة الأخرى. هذا التحول يعكس انتقاله من فضاء المشافهة إلى فضاءات التدوين والوسائط الرقمية، مما وسّع دائرة جمهوره، وأكد حضوره في الذاكرة الثقافية المعاصرة باعتباره فنًا متجددًا يتجاوز الحدود التقليدية للقصيدة.
- الزجل كفضاء للتجريب الفني والفكري:
لقد تحول الزجل المغربي المعاصر إلى مختبر للتجريب الفني والفكري، وحقل خصب لإنتاج المعنى وإعادة تشكيله في ضوء تحولات المجتمع المغربي وانخراطه في زمن العولمة والرقمنة. فالقصيدة الزجلية المعاصرة ليست مجرد وسيلة للفرجة، بل نص مفتوح على مختلف أشكال التأويل، قادر على استيعاب التحولات الاجتماعية والقلق الوجودي، مع الحفاظ على بعد فلسفي عميق.
- اللغة العامية كأداة شعرية عالية الكثافة:
لم تعد العامية المغربية لغة تداولية فقط، بل أصبحت أداة شعرية قادرة على إنتاج الاستعارة والرؤيا والتكثيف الدلالي، مما يمنح النص الزجلي قدرة على التعبير عن قضايا وجودية وإنسانية. فاللغة الشعبية تتحول إلى عنصر شعري أساسي يزاوج بين الهوية الثقافية المحلية والانفتاح على أبعاد كونية وفلسفية.
- النص الزجلي كنص مفتوح متعدد التأويل
القصيدة الزجلية المعاصرة تعمل على فتح آفاق متعددة للتأويل، حيث تتحول الكلمات إلى علامات دينامية تتفاعل مع وعي القارئ أو المستمع، مما يجعل المتلقي شريكًا في إنتاج المعنى. العلامات الرمزية في النصوص الزجلية تتحرر من دلالاتها القاموسية لتدخل في شبكة من العلاقات الرمزية والفكرية، فتصبح استعارات وجودية قابلة للتجديد المستمر.
- الإيقاع الداخلي والتكرار الصوتي:
الإيقاع الداخلي والتكرار الصوتي ليسا مجرد عناصر جمالية، بل أدوات دلالية ومعرفية تعمل على تعزيز البنية المعرفية للنص، وتحفيز العاطفة والانتباه والذاكرة لدى المتلقي، لتصبح تجربة الزجل تجربة معرفية وفلسفية متكاملة، تجمع بين الأداء الصوتي، الإيقاع، اللغة اليومية، والصور الرمزية.
- الأبعاد النقدية والفلسفية للزجل:
الزجل المغربي المعاصر ليس مجرد نص شعري، بل ممارسة نقدية وفلسفية حية، تستثمر السخرية والهجاء والتفكيك الرمزي للبنى التقليدية، لتفتح مجالاً لإعادة التفكير في القيم الاجتماعية والوجودية. هذه النصوص تمثل فضاءً للتفاعل بين المحلي والكوني، بين التراث والحداثة، وبين التجربة الفردية والذاكرة الجماعية.
- أفق البحث والمستقبل:
يؤكد البحث على ضرورة تأسيس خطاب نقدي زجلي جديد يعتمد على مقاربات ما بعد السيميائيات، ويتجاوز الثنائيات التقليدية بين الوصف والتوثيق. كما يشير إلى أهمية إدماج الزجل في المؤسسات الأكاديمية والمناهج التعليمية، وتوسيع فضاءاته الثقافية والإعلامية، باعتباره أداة للتجديد الأدبي والفكري والثقافي، ورافدًا حيًا للثقافة المغربية والعربية.
إن قصيدة الزجل المغربية المعاصرة تمثل اليوم فضاءً إبداعيًا متجددًا، يجمع بين الجمالي والفكري والمعرفي، ويؤكد أن هذا الجنس الشعري لم يعد مجرد ممارسة تقليدية أو خطابًا للفرجة، بل أصبح نصًا مفتوحًا متعدد التأويلات، قادرًا على استيعاب التحولات الاجتماعية والفكرية للمجتمع المغربي، والانخراط في السياق الثقافي العربي والعالمي.وإن إدماج مقاربات ما بعد السيميائيات في دراسة قصيدة الزجل يفتح آفاقًا جديدة لفهم طبيعة النص الزجلي المعاصر، ويتيح تأسيس خطاب نقدي جديد يتجاوز الانطباعية والتوصيف، ويؤسس لوعي معرفي يجمع بين الإبداع والسياق، بين العلامة والمعنى، وبين اللغة والذاكرة الثقافية. وبذلك، يظل الزجل المغربي المعاصر نصًا حيًا، قادرًا على التجدد المستمر، وممارسة نقدية وإبداعية متكاملة، تؤكد أهميته كعنصر أصيل في الثقافة الأدبية المغربية والعربية، وفي مشهد الأدب العالمي المعاصر.