المقالات

في فلسفة التسويات التاريخية(إدريس مقبول)_5_

إن أي نظام سياسي في بداية طريقه للتحلل، إذا كان يتوفر على قدر ضئيل من الذكاء، فإنه يسارع في لحظات تصاعد التوتر إلى تنفيس الاحتقان بمعالجة فورية لمسألتين حيويتين إليهما ترتد كافة المشاكل والأزمات، وبهما يتقوم أي شكل من أشكال الحياة الكريمة حال إصلاحهما: إنهما الخبز والحرية.

لقد أثبتت الأيام كما يقول الساخر جلال عامر في كتابه (قصر الكلام)” أنّ الحرية دون خبز، تجعلنا مستعمرة عراة، وأنّ الخبز دون الحرية، يحولنا إلى قفص عصافير”.

لا يبدو إهمال الخبز والحرية أو الاستخفاف بهما إلا تجاهلا لزوابع الثورات التي تنشأ عن انتهاكهما، ولنا في تاريخ عدم نضج العديد من الأنظمة واستيعابها لقوة المطلبين في تحقيق الاستقرار أمثلة لا تحصى.

ولا شك ان خيارات الخروج بتسويات استباقية ملائمة تمنع من السقوط في الفوضى تشترط أولا التوقف عن استهداف خبز المواطنين، لأن الجمهور حين يُقتطع خبزه أو يُحرم من نصيبه فيه يفقد بصره وعقله كما يفقد إدراكه لواجباته الأخلاقية، ويصبح حينها “كائنا بلا أخلاق” تحت ضغط “نظام بلا أخلاق”، ويكون واجبه الأول إعلان الحرب على من كان وراء فقره وحرمانه، ذلك أن ما نراه من ظهور الإنسان بمظهر الاتزان وهي فضيلة، يقف وراءه ضمان مصالحه الشخصية الحيوية وحمايتها، فإذا استبيحت سقط كل اعتبار لأي فضيلة ولأي قيمة أخلاقية.

كان جاك نيكر وهو أحد مفكري القرن الثامن عشر يرى أن جل ما يمكن أن يقوم به الشعب في حالات استفحال الغلاء هو اضرام نار الفتن العفوية، احتجاجا على غلاء القمح، يقول: “عندما يمسي الخبز، أساس كل غذاء، عرضة للخطر ، فإن الشعب، ذلك الطفل الذي يقاد ملجوما وسط شتى ألوان الحرمان واللامساواة، يتحول عند ذاك إلى أسد مزمجر”.

وإذا كانت استعادة  موازين الاستقرار مشروطة أولا بوعي نخبة الحاكمين تجاه مسألة خبز الفقراء، فإنها مشروطة ثانيا بوعيهم تجاه مسألة الحرية، ذلك ان مقدمة أي تسوية تاريخية هي تحرير الأصوات المخنوقة وإطلاق سراح كافة معتقلي الرأي بلا استثناء، وهذا لا يسمح به إلا تحلي الحاكمين بفضيلة الإنصات المتواضع حتى يتمهد الجو النفسي للشروع في أي عملية ترميم للأوضاع النفسية قبل الأوضاع الاقتصادية والسياسية.

من دروس مارتن لوثر في تجربته النضالية في مواجهة نظام التفقير والميز العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية أن الوعي الجماعي المثابر والصبور بقيمة حرية الجمهور هو ما يمكن بفضله أن يُحوِّل وديان اليأس إلى قمم للأمل، وأن يحول كل جبل من جبال الغرور واللاعقلانية إلى تلة منبسطة بعمليات التسوية التي أساسها التواضع والرحمة إلى أن تتحول مساحات الظلم القاسية إلى سهل ناعم من التساوي في الفرص، وإلى أن يتم تصحيح مساحات الإجحاف الملتوية بآلية تقويم قاعدتُها الحكمة والبصيرة المستنيرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق